وداري كل الناس لكن حاسدي .. مداراته عزت وعز منالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة .. إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
ثم أما بعد .. فيا معاشر المؤمنين ..
مرض من أمراض القلوب ، وآفة من آفات النفوس إذا تمكن من القلب ، وامتد إلى النفس أفسد الأعمال الصالحة ، وأكل حسنات صاحبه ، وأوقع بين الناس الخصومة والمقاطعة ، لا سيما ذوي الأرحام منهم ، انه داء الحسد ، ذلكم الداء الخطير والمرض العليل ، الذي يأكل الحسنات ويذهب الصالحات ، ويضاعف الهموم والأحزان .
إخوة الإيمان والدين .. الحسد هو تمني زوال ما عند الآخرين من الخيرات والنعم ، وحيث أن هذا المبدأ المذموم فيه احتجاج على المنعم تبارك وتعالى ، واعتراض على ما قسمه من الأرزاق ، نهى الله عنه ، وحذر من الوقوع فيه وأمر عباده أن يسألوه من فضله بدلا من أن يحسدوا غيرهم فقال سبحانه:ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله بكل شيء عليم.
ومتى اتصف الإنسان بهذه الصفة الذميمة ، وتخلق بهذا الخلق القبيح ، أصبح حينئذ معول هدم ، وأداةَ إفساد ، وعاملَ تخريب وتفريق ، ومن تأمل فيما يحدث بين الأقارب والجيران ، وزملاء العمل والأقران ، وطلاب العلم والعلماء ، من التقاطع والهجران ، والتشاجر والخصام ، والنزاع والشقاق والغيبة والنميمة ، والشماتة عند المصيبة ، والفرح عند نزول البلاء ، من تأمل ذلك كله ، وجد أن السبب الرئيس ، والدافعَ الأساس ، والحاملَ عليه ، هو بكل أسف الحسد .
وهذا ما لا يريده دين الإسلام ، ولا ينبغي أن يكون بين الأنام ، لان الأصل الأصيل ، الذي سعى الإسلام إلى تحقيقه ، وعمل على غرسه في نفوس المؤمنين ، هو بناء مجتمع صالح متعاون مترابط ، تسوده المحبة والإخاء ، وينتشر الخير بين أفراده في الصباح والمساء ، مجتمع يقوم على غرس الفضيلة والكرامة ، ونبذ الرذيلة والخسة والدناءة ، وقد نجح النبيفي ذلك نجاحا باهرا ، فقد أسس مجتمعا خيرا طاهرا نقيا ، متراحما متعاطفا متآلفا ، لم يمر على التاريخ مثله ، ولم يسمع عبر الزمان بشبيه له ، وإذا أردتم على ذلك دليلا ، فاقرءوا قصة المهاجرين والأنصار ، حينما استقبل الأنصاريون المهاجرين في طيبة الطيبة ، فآووهم إلى دورهم ، ومنحوهم من أموالهم ، قمة في الإيثار ، وسمو في المحبة والإحسان ، وصف الله لنا هذه الملحمةَ والتلاحم ، فقال سبحانه:والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .
أمة الحق والدين .. الحسد ظلم وتجاوز ، واعتداء وتطاول ليس من صفات المؤمنين ، ولا نعوت الصالحين ، ومن وقع في الحسد ، كان فيه شبه من اليهود ، الذين حسدوا هذه الأمة ونبيها على ما آتاهم الله من فضله ، بين الله ذلك ، فقال سبحانه: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما.
ألا وإن من الأمور المسلم بها ، والمعلومة من الدين بالضرورة ، أن الله جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، هو الذي يعطي ويمنع ، ويمنح ويسلب ، ويغني ويفقر ، وأمام هذا المعتقدات الثابتة ، والقواعد الراسخة ، يقف صاحب القلب النظيف الخالي من الأمراض والأدواء ، مسلما لله بما أعطاه راضيا بما منحه وقدره ، له أو لغيره من إخوانه المسلمين ، عازيا كل النعم للمنعم سبحانه ، يلهج لسانه بحمد ربه وشكره على كل نعمة ، أنعمها الله عليه أو على أحد من خلقه ، يردد الدعاء المأثور في الصباح والمساء: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر)).
أما صاحب القلب المريض ، الذي امتلأ قلبه غلا وحسدا ، فلا تراه إلا محتجا ومتسخطا ، ومتبرما وممتعضا ، متمنيا زوال كل نعمة أنعمها الله على عباده ، يحترق في داخله إذا رآك في نعمة ، ويفرح أشد الفرح إذا حل بك نقمة ، أحسن أيامه يوم تمرض ، وأسعد أوقاته يوم تخسر ، وأجمل اللحظات لديه يوم أن يراك مهموما مغموما ، فيه صفة من صفات اليهود الذين قال الله فيهم ،ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
وفيه خصلة من خصال المنافقين الذين قال الله عنهم:إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وان تصبكم سيئة يفرحوا بها.
جنبي الله وإياكم الأمراض القلبية ومنها الحسد ، ورزقنا جميعا إيمانا كاملا ، ورزقا واسعا ، وعلما نافعا ، أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية .. ثم أما بعد .. فيا معاشر المسلمين
فإن الحسد داء يعمي العيون ، ومرض يميت القلوب والحاسد لا يرى إلا ما أملاه عليه خبثه ومكره ، ولا يبصر إلا ما استقر من الشر في نفسه ، أوليس هو الذي دفع أبناء يعقوب للتخلص من أخيهم يوسف عليه السلام ، فألقوا به في غيابة الجب ، وتركوه يصارع الموت في لجج الظلام ، لقد نزع الحسد الرحمة من قلوبهم ، وأعمى الحقد أعينهم ، حتى قالوا وبئس ما قالوا: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ، وتكونوا من بعده قوما صالحين.
والحسد هو الذي دفع قابيل لارتكاب أول جريمة قتل في التاريخ بحق أخيه هابيل ، بين الله لنا ذلك ، حتى لا نقع فيما وقع فيه قابيل ، فقال:واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين.
ونظرا لما للحسد من آثار سيئة ، وعواقب وخيمة ، فقد أمر الله رسولهأن يتعوذ بالله من شر الحسد وأهله ، فقال سبحانه:قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد .
الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، ففي سنن أبي داوود ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبيقال: ((إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) .
ولقد حذر صلوات الله وسلامه عليه من الحسد ، ونهى عنه ففي الحديث المتفق على صحته ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله قال: ((إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولاتجسسوا ، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا)) .
وما أجمل قول القائل حين قال:
كل العداوة قد ترجى إماتتها .. إلا عداوة من عاداك من حسد
عباد الله .. تجنبوا الحسد في حياتكم ، وطهروا قلوبكم من الغل تسعدوا في دنياكم ، وتفلحوا في الأخرى .
هذا وصلوا وسلموا ..