بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



صائدة الفئران

بقلم/
الهادي علي الجورني




.. ضباب القلق الرمادي تكاثف سحابة سوداء فوق رؤوس البسطاء ، وهم ينثرون الحَبَّ في الأرض لتزرع الأمل دون اللجوء لأساليب عقيمة حاصرت العالم خُبثاً ، وجنوناً قتلت بذرة الحياة في مهدها !..
.. عصور شتى عاصرها السيد والعبد والجريح والأسير والسجين والطليق .. وذئاب وضباع الغاب تحوم حول الجثث الصفراء تنهش بأنيابها الحادة لحمها المرّ وتستسيغه غِداءا لذيذاً برغم غضب الطبيعة وأنهارها الجميلة تندفع بين الجبال وتوزع حنانها الفياض على بذر الأرض لينبت الفرع الأخضر ويصبح شجرة باسقة تصد الغدر والرياح !..
وهو قابع تحت شجرة الرمان يرسم بأصبعيه تاريخ عصره المخيف على تراب الأرض الطيبة ، وهم يرسمونه في عُمق الفضاء !.. والمفارقة شاسعة بين الأمس .. واليوم .. والغدِ .. وطيور الخُطّاف الجميلة تفرد أجنحتها طائرات بيضاء تملأ الفضاء وترسم وطناً لم يكن يوماً به جديراً !..
.. تجمدت حواسها الفاتنة وهي تناصر حقه في الوجود رجلاً ، وتعارض صمته الغريب تعرى قلقاً مزمناً زاوله زمناً طويلاً دون الوقوف عند الحقيقة !.. حقيقتهم وحقيقتها ، وحقيقة عُرّف أصله !..
.. دفعته لأن يكون .. ولم يكن سوى غرضاً اُستنفذت قواه كلما أشعلت الرغبة فيه للوصول ، ولم تصل إلى حقه أوحقها أو حقهم في العيش بسلام !!..
.. الحرب اشتعلت وأعاصيرها الملتهبة لوثت هواء الطبيعة ، وسموم مواسم الصيف ، والخريف ، والشتاء حاصرت البشر وباءاً حصدهم الواحد تلو الآخر فأرسلت أبنائها إلى الفضاء حتى يعيشون .. ويحصدون الأمل بقرب القمر !.. فشعاعه المُبهر قد سبق أريجه يعانق الوجدان عبر صور كثيرة جميلة يناجيها :.. وحدكِ كُنتِ ملاذ القلب .. فكيف سأخرج من هيكلكِ .. تلك محاولات مستحيلة .. مستحيلة !..
ودودة القِزّ على أوراق الشجر تنسج خيوطاً من زجاج تتكسر كلما هبت عليها الرياح !..
.. تصمت ..ينتفض جسدها الجميل من مكان لتتذمر .. تمزق الصمت إرباً بصرخات ألم متفاقم ثم تعيث في الأفق تمرداً .. تناقض الفكرة ..وتناشد الذكرى هوساً محتقناً بهواجس نرجسية عصرها الكاذب في سماء آفاق خيالها الضيق !..
.. تعانق بعينيها الساحرتين الخنجر اللامع المصقول ، وتصوبه نحو الصدر غدراً .. بكل أناقة الأُنثى المتجبرة في عصر النجوم !.. تغدر .. أجل تغدر !!..
تتجرد من حياءها وتغزو الأدغال بقلب من حجر .. تهز أغصان الشجر ، وتعاند في وجدانها جنون الخطر !..
.. تصرخ بصوت عال يرتد صداه بين الجبال الشامخة ثم تهز جسدها الرشيق برجات متوالية وتعاند الخطر عندما تخترق أسماعها أصوات الخنازير القذرة ، وعوى الذئاب الغادرة .. تلتفت حولها ثم إلى قدميها فترى حولها الفئران ترتعد أجسادها الصغيرة خوفاً ، وفزعاً ، ورُعباً أسيرة قيود وضعتها هي حول رقابها تتحكم فيهم بسلاسل حديدية طويلة تجرها معها نحو عصرها المُخيف !..
.. تهب الرياح الخفيفة .. تحرك مشاعرها ، وشعرها الطويل المنسدل حريراً حول الوجنتين الورديتين ، تذوب فيهما غمازتين حلوتين عاصرت الجمال بريقاً خاطفاً تحاصران شفتين غليظتين يقطر منهما عسل أحمر !.. تبتسم بفتنة ونشوة .. وتأسرك عينان واسعتين يخطفك بريقهما نحو الجنون ثم يُعيدكَ عاقلاً مسلوب الإرادة !.. ترفرفان حولهما بجناحي أهداب طويلة رموشاً ساحرة طويلة تحوم حولك لتمتص روحك دون إنذار مسبق !..
ابتسمت بدلال ورقة لذيذة وهي تنظر إلى ذلك الشيخ الذي ظهر لها فجأة وسط ذلك الغاب ..يقف أمامها .. من أين أتى ؟!.. لا تدري !.. كيف سقط عليها من السماء ؟!.. لا تدري !.. لكنه يبدو غريباً .. يرتدي على رأسه قُبعة أهل ( الأسكيمو ) ، ويتقمص جسده سروال الغرور الأزرق الشاحب ، وسترة الفضاء البيضاء !.. ولحية ذقنه الصفراء البيضاء ، وأسنانه عندما ابتسم لها صدأه لونتها دخان غليونه المُكلف بدت بنية مصفرة ..
.. وقفت أمامه تعانده بصدر بارز عمق هوس الشوق للمرأة في رأسه .. تتباعد ساقاها بغرور الشباب وسحر هواه .. تنظر إليه بنظرات ساحرة تتفحصه من كل جانب ثم تقع عيناها على ساقيه فتراهما قد بدءا يأخذان طور التقوس عبر آفة عصر النتانة عاصره يمشي إليه خالي الذكرى والتاريخ والوفاض !..
ابتسمت بخُبث ودهاء وبدأت تضحك على عاره وعارها .. وتشد السلسلة البيضاء بقسوة إليها فيضيق الخناق على رقاب الفئران وتصيح من الألم .. ويبكي الفأر الجمل حاله ثم تعانق أساريره الضيقة نشوة الخضوع ثم الرجوع لذكرى ذراعيها الجميلتين تضمه بحنان أحضانها الدافئة لتحيي النبض فيه فينسى همه ، وجروحه وآلامه المباغتة ، وهو يذوب حنيناً لعشقها !.. وتسقط دموعه مطراً ..
.. يتقدم الشيخ منها ثم يقبع عند قدميها .. يضع يده حول جسد الفأر الصغير .. يمررها بلطف على فراءه البني الجميل ثم يقف متصلب العضلات ينظر في عينيها هامساً : .. لستِ أنتِ من أهوى !.. بل هو قناعك المزيف .. اخلعيه .. أرجوكِ مزقيه ، وباني على حقيقتكِ اللئيمة .. مهما تكن حقيقتُكِ فهي أنتِ !..
ضحكت بجنون ثم ضحكت بتمرد تعانق زمناً مخضباً بالخُبث والرياء .. وهي تنظر في المرآة تشاهد جسدها المثير يتقمص سيد الألوان في أجمل صورة تعاند الشباب غروراً تجابهه بصدر رطب عانق السحر أشجاناً عاتية ، وخصر مدور لاطفت روعة تكوينه ومحاسنه نظرات الإعجاب من كل فج بكل عصر !..
: .. سوف أخذ ذلك الفأر الصغير معي ، وأُعطيكِ بدله ما تريدين ..
.. ضحكت بلؤم وفجور تقول : .. ولكنكَ لا تملك من أمر ما أريده شيئاً .. فلقد تآكلت فيكَ الأيام ولم يتبق من غرور الرجال فيكَ شيئاً أستطيع استخدامه كلما عشقتُ الزمن رجلاً !!..
: .. لكنه مسكينٌ .. ولكنه فأرٌ صغيراً لا يمكن أن يؤذيكِ أو يؤذي الآخرين !..
: .. من أرسلكَ .. أيها الشيخ ؟!..
: .. أرسلني من يهتم لأمره !..
: .. فئران وضيعة مثله .. أليس كذلك ؟!..فئران مجرمة سرقت آمال وأحلام الأبرياء مثله .. أليس كذلك ؟!.. أرحل .. أيها الشيخ قبل أن تُصبح عليكَ لعنة تجردكَ من غرور ماضيكَ وتتحول بين يدي فأراً أسيراً مثله !..
وتهب رياح خفيفة .. فيتطاير شعرها الحرير بكل اتجاه .. يلامس بين الفينة والأخرى جمال القسمات البديعة ، ويغني لها سعيداً في الهوى !.. وبلحة اختفى ذلك الشيخ ، واختفى معه الفأر الصغير حراً طليقاً !.. يتغذى .. ويسمن ثم يذود في الأرض فساداً .. ويمزق أحلام الأبرياء كل دقيقة !.. هكذا سولت لها نفسها عن عاقبة هروبه من الأسر .. غضبت بشدة وبدأت تجتر الحقد لعنات متوالية تصبها على رأس ذلك الشيخ الأخرق !.. والذئاب والضباع تقف أمامها مكشرةً عن أنيابها ترمقها بنظرات لامعة !..
.. تتحرك للأمام .. وتقف بثبات تتحدى الجميع ، وهي تُرسل سهام نظراتها لتخترق نظراتهم وميضاً براقاً ساحراً خطف بريق عيونهم .. وأصبحت هي الصورة الوحيدة بمآقيهم جميعاً .. فباتوا أسرى سحر نظراتها الفاتنة ، وقبعوا عند قدميها في خضوع تام يحمونها من الغربان ، والفئران !!..
فجأة سقطت من على غصن الشجرة ثمرة سوداء كبيرة .. غريبة أمام قدميها !.. استعدت الذئاب والضباع للانقضاض ، وارتعدت مفاصل الفئران خوفاً .. رفعت يدها للأعلى تأمرهم بالارتداع ثم وقفت بعناد الشجاع تنظر لتلك الثمرة السوداء الكبيرة حين انفتحت نصفين لتخرج منها عجوز شمطاء تركب عصا مكنسة ، وبيدها عصا سحرية صغيرة تذود بها هجوماً !.. شدتّْ على السلاسل البيضاء إليها بقسوة فصرخت الفئران من الألم .. انهارت العجوز تبكي ، وهي تحاول تقبيل يد الفاتنة تستجدي العطف والرحمة تقول : .. أرجوكِ الرحمة لهم .. أطلقي سراحه وسراحهم جميعاً .. فهي فئران مسكينة لا حول لها ولا قوة !..
قالت : .. من أنتِ .. أيتها العجوز الشمطاء ..صانعة السحر الأسود ؟!.. ومن أرسلكِ لنا ؟!..
: .. أرسلوني من يهتم لأمره وأمرهم .. دعيهم أو دعيه وحده ، وسأحقق لكِ بأفعال سحري ما تريدين !..
ضحكت بقهقهة ، وهي تحوم حول العجوز تمطرها بنظرات التفحص عن قُرب ، والاحتقار الشديد ، وتشُد القيد حول رقاب الفئران بشدة فتصوصوا الفئران ألماً ثم تتجرأ على حياءها وتُمسك بعباءة العجوز السوداء وتلتقطها بين يديها بمهارة فائقة فتصبح العجوز أمامهم جميعاً عارية الجسد ، وهي تُخفي عورتها بيديها وتصيح : .. نباً لكِ .. يا امرأة .. أيتها الساحرة .. لم ينتصر علي من قبل بشر سواكِ .. أيتها الأُنثى الماهرة !..
.. وتهب رياح خفيفة يسافر معها شعر رأسها الطويل في دوامة غريبة ثم يعود ويلتف حول وجهها الجميل ، وكتفيها .. ويمتد طولاً حتى خصرها النحيل يجادل الحسن شوقاً .. تتنهد بروعة ، وتنظر الصيادة الماهرة لفئرانها فترى عددهم قد بدأ يقل !.. تصيح ثم تتذمر وتُطلق اللعنات المتوالية حول تلك العجوز الشمطاء الفاجرة ، وذلك الشيخ الأحمق !.. تتنهد عبقاً نرجسياً ثم تجلس على جدع شجرة مبتورة !.. تضع يديها حول وجنتيها المحمرتين ، وتهيم في بحر هواجسها المحمومة .. تبتسم برقة وعذوبة ، وتشد السلاسل إليها فتصوصوا الفئران من الألم المبرح ..وتقترب الذئاب والضباع منها لترقد بخضوع تحت قدميها هادئة الأسارير !..
تهب ريح خفيفة تجلب معها ورقة شجر خضراء عملاقة .. تصل حيث هي .. يجلس عليها طفل جميلاً .. تقترب منها أكثر ..يبرز الطفل شفتيه للأمام ويطبع قبلة صغيرة على خدها الوضاء .. يقفز من على الورقة الخضراء ، ويقف أمامها جميل المحيى .. رقيق المشاعر .. رطب اليدين حين يُمسك بيدها الصغيرة يجذبها معه .. تسير في الطريق وهي تجر الفئران الأسيرة معها .. تنظر إلى ذلك الطفل الجميل بوله شديد .. تحبه ثم تحبه .. تعشقه أملاً عاش منغمراً في صدرها سنيناً !.. هذا هو طفل الحياة الأمثل !..
.. يقودها إلى كهفٍ مخيف .. خيوط العنكبوت نُسجت لتسد مدخله .. تتحرك الذئاب والضباع وهي تتحرش بستار ظلام الكهف الكثيف !.. لكنها ترفع يدها عالياً فيهدأ الجميع .. تجذب فئرانها الأسيرة ، وتتقدم مع الطفل وهي تدمر نسيج الخطر بكل جلد !.. يبتسم لها الطفل بكل رقة وروعة فتبتسم له ، وتدخل معه الكهف .. فترى بشراً قليلاً في سُبات عميق .. حاولت أن تميز بنظراتها من يكونوا ولم تستطع !.. حاولت أن تعُدّ وجودهم بذلك الكهف فوجدتهم سبعُ أشخاص وثامنهم كلبهم المطيع ..كُلّ ينام في هدوء ، وسُبات عميقاً ، وقد غطى الشعر الأبيض رؤوسهم وذقونهم ووجوههم .. نظرت إلى الصبي بحيرة وارتباك .. وبدأت الفئران تصوصوا ..فأمسكت باللجام إليها .. وهنا فقط رأت كُلّ شيء قد بدأ يفرقع بفراغ الكهف ويصبح أشلاءً متناثرةً .. كل الفئران والذئاب والضباع تفرقع وتنفجر أمامها بذلك الكهف مطلقةً نوراً خاطفاً تم يختفي بهدوء ولم يعُدّ بذلك الكهف سواها والسبع رجال وكلبهم والصبي !.. نظرت باستغراب وحيرة شديدة تستفسر عيناها عن كل ما حدث أمامهما لكن عينا الصبي المبتسمتان ووجهه الجميل أغرقها في سُبات نوم عميق !.. فجلست عند أقدامهم تضم ساقيها إلى صدرها بذراعيها ، وتضع رأسها على رُكبتيها ، وتغيب في أحلام عميقة تأخذها لعصور مضت قبل كتابة التاريخ .. ابتسم الطفل بسعادة ثم تنهد يقول : .. نامي .. أيتها الجميلة كما ينام أهل الكهف !.. سوف يأتي اليوم الذي تستيقظين فيه وإياهم ، وتُصبحين بريئة .. سعيدة في دنيا بلا فئران قذرة تجوب الأرض فساداً .. يا صائدة الفئران عصركِ انتهى ، وسيتجدد بعصر جميلاً تضيئين فيه الزهر نوراً وهاجاً .. فتموت الفئران جميعها حتى لا تُغضبُكِ أكتر.




النهــــــاية