بقلم: د. صلاح عبد الحميد زيدان تتأهب الخلائق الوافدة للحج إلى الوقوف بعرفة وتستعد للقيام بهذه الرحلة الروحية، وتتنافس في السبق إلى موقف الرضا والرحمات ومكان نزول المنح الإلهية والعطايا الربانية، فيدفعهم طمعهم إلى ساحة الكرم ويدفعهم أملهم إلى حمى المضيف العظيم، يرجون عطفه ويلتمسون مغفرته، والقلوب إذ تستجيب لهذه الدعوة الربانية وتتهافت على ساحة الجلال والنفحات الرحمانية فما ذلك إلا أنها ترى فيها سعادتها وحياتها وتحس الأرواح بأن فيها متعتها وأنسها وتشعر بلذة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيها عبدًا من النار من يوم عرفة وأنه يباهي بهم الملائكة" وهو أهم ركن من أركان الحج بل هو أساس الحج فأرجو الله أن يوفق حجاج بيته لتفهمها والعمل بمقتضاها.
وأعلم أن شرع الله من حيث معرفة وجه الحكمة، وعدم معرفتها على قسمين:
الأول: ما ظهرت حكمته، وبانت للعقول مصلحته، وذلك كحد الردة حفظاً للدين، وحد القصاص حفظًا للحياة، وحد الزنا حفظًا للأنساب، وحد الخمر حفظًا للعقول.
الثاني: ما خفي على العقول وجه المصلحة منه، كتعيين رمضان بالصيام، وكتحديد خمس صلوات في اليوم والليلة، وتعيين عرفة بالوقوف، فحكمة هذه الأمور أخفاها الله عنا ابتلاءً ليتحقق من العبد الاستسلام لله بالطاعة، وأن حال العبد أمام أمر الله وشرعه قائم على قدم الخضوع والاستسلام، سواء علم الحكمة من أمره، أم لم يعلمها مع التيقن أن لها حِكمًا لم نعلمها، ولم ندركها بعقولنا.
د. صلاح عبد الحميد زيدان
وقد جاء في تفسير ابن كثير عن الحكمة من الوقوف بعرفة بقوله: "ثم قيل: إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: بعث الله جبريل، عليه السلام، إلى إبراهيم، عليه السلام، فحج به، حتى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرةً قبل ذلك، فلذلك سميت عَرَفة، وقال ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال: إنما سميت عرفة، أنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك، فيقول: عَرَفْتُ عَرَفْتُ، فسمي "عرفات"، وروي نحوه عن ابن عباس، وابن عمر وأبي مِجْلز، فالله أعلم" ا.هـ. وقد تكون الحكمة من الوقوف بعرفات تذكر يوم الحشر الأكبر، من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق، مع ملاحظة ارتداء ثوب الإحرام المجرد من الخياطة بالنسبة إلى الرجال، وذلك يذكرنا بالكفن ويرسم لنا صورة المستقبل المذهل في ذلك اليوم الذي تحدّث الله عنه بقوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارىُ وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ).
والوقوف بعرفة في معنى الاجتماع لصلاة الجمعة إلا أن جماعته أكبر، وفائدة الاجتماع فيه أعم وأكمل، فإن المسلمين يجتمعون له من كل شعب وقبيل، ويقصدون إليه من كل رجا من أرجاء الأرض فيتعارفون في موقف يساوي بين الملوك والأمراء، والصعاليك والفقراء؛ إذ يجتمعون بزي واحد على عمل واحد، والنتيجة العملية والفائدة التربوية المترتبة على ذلك هي حصول الخوف الشديد من هول ذلك اليوم وهذا يؤدي بطبعه إلى الاستمساك بعروة التقوى والعودة إلى الله من باب التوبة؛ لأن الله سبحانه: (يُحِبُّ التَّوَّابِين وَيُحِبُّ المُتَطهِّرِينَ).
ومنها: حصول الانفتاح العفوي من قبل المسلمين بعضهم على بعض ليتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى بالسعي في سبيل تحقيق المصالح المشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مذاهبها وانتماءاتها وتتمثل تلك المصالح بالمنافع التالية، وهي:
المنافع المادية الاقتصادية بسبب تعارف التجار وتفاهمهم على القيام بالتبادل التجاري؛ بأن يرسل كل بلد ما يوجد لديه من بضائع ومصنوعات ومنتوجات غير موجودة في البلد الآخر، كما يحصل تبادل منافع بين الحجاج القاصدين لتأدية فريضة الحج المباركة بأن يصحب الذاهب إلى زيارة بيت الله الحرام ما يوجد في بلده من بضائع ونحوها ليبيعها في أسواق بلد الحج قبل قيامه بالفريضة أو بعد تأديتها، ولا مانع من ذلك شرعًا وقد صرح الله سبحانه بمشروعية الاستفادة المادية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، والمنافع السياسية وذلك من خلال تلاقي رموز الشعوب الروحية والسياسية واجتماعها من أجل التشاور، ومعرفة ما يعود على الشعوب الإسلامية ودولها بالنفع والقوة المعنوية السياسية مضافًا إلى ما يعود عليها بالقوة العسكرية التي تمكنها من الصمود أمام التحديات والاعتداءات التي تتعرض لها بين الحين والآخر من قبل أعداء الأمتين الإسلامية والعربية والمنافع الثقافية، من خلال التقاء رجال الفكر والثقافة العالمية وتذاكرهم حول أهم المواد العلمية الدراسية والأدبية ونحوها ممّا ينفع الطلاب مع التعرف على أجدى الأساليب وأنفع الطرق التي تساعد المعلم على تعليم طلابه وإفادتهم في الحقل التعليمي.
وتأتي وقفة عرفات لتؤكد أواصر الوحدة المعنوية للأمة الإسلامية بمظاهر وحدوية تذوب معها فوارق اللون واللغة والعرق والمذهب واللباس فالكل متجردون من ملابس الحياة الدنيا وزينتها ليبرزوا بمظهر واحد ويلتقوا على صعيد واحد ويهتفوا بشعار واحد، وهو شعار التلبية التي يدوي صداها في مسامع تلك الجماهير الغفيرة، فتبعث في قلوبها القوة والثقة بقدرة الأمة وتمكنها إذا اعتصمت بحبل الله سبحانه.
ولا يخفى على المسلم الواعي أن استلهام درس الوحدة الإسلامية من مدرسة عرفات وتعميقها في النفوس يتوقف على التنبيه والتنبه لكونها- أي الوحدة الإسلامية- إحدى أبرز الغايات المستهدفة من تشريع هذا الشعار المبارك لذلك يُطلب ممن يؤدي مناسك الحج أن يلتفت إلى هذه الغاية السامية المنشودة من وراء تشريع وجوب هذه الفريضة بصورة عامة كما يُطلب الالتفات إلى الحكمة المستهدفة من كل منسك من مناسكها.
-------------
* موجه اللغة العربية بإدارة إدفو التعليمية بأسوان.