|
المقدمة
عدت بذاكرتي إلى أيام الدراسة وشغفنا في ذلك الوقت في البحث في الكتب عن كل ما هو مفيد، فكانت بالصدفة كلمة ثقافة إحدى الكلمات التي بحثت في أصلها، خاصة أن كلمة (ثقافة) لم ترد إطلاقا في نصوص العرب وأشعارهم، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وقد وصفها المعجم الوسيط بأنها كلمة محدثة في اللغة العربية؛ ما يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن لها عند العرب والمسلمين ذلك الوزن الذي يعطى لها اليوم، ومن هنا فإن العرب والمسلمين، حتى ما قبل قرن من الزمان لم يكونوا يولونها أي حظ من الاهتمام، بينما هي اليوم كل شيء في حياة البشرية، بل هي مرآتها.
ووجدت أن لها متفرعات كثيرة وأصولا وجذورا، ومفهومها له أبعاد ومرتكزات، وكل منها يحمل معاني تختلف حسب موقعها، ووجدت أن مفهوم الثقافة في اللغة العربية يختلف اختلافا واضحا عن مفهوم كلمة Culture في اللغة الإنجليزية، لكني هنا أقدم تعريفا مبسطا لهذه الكلمة؛ حتى تسهل علينا الوصول إلى ما نصبو إليه وما يفيد القارئ والأشخاص المعنيين في هذا المقال.
إن جذر كلمة ثقافة هو: ث ق ف، ولهذا الجذر معنيان رئيسان متباينان في اللغة العربية:
الأول: ثَقَفَ: قال الفيروز أبادي: ثَقَفه: أي صادفه أو أخذه أو ظفر به أو أدركه.
وأُثقِفْتُهُ: قُيِّضَ لي.
والثاني: ثَقِفَ يثقَف، وثَقُفَ يثقُف، ثَقْفاً وثَقَفاً وثقافة: صار حاذقاً خفيفاً فطناً....ومنه:
ثَقِفَ الكلام: حذقه وفهمه بسرعة.
وثَقَّفَ الرمحَ: قوّمه وسوّاه.
وثقَّف الولد: هذّبه وعلّمه.
وثاقفه مثاقفةً: غالبه فغلبه في الحذق.
(ويبين ابن منظور في لسان العرب أن معنى ثَقَفَ: جدّد وسوّى، ويربط بين التثقيف والحذق وسرعة التعليم).
ويعرّف المعجم الوسيط الثقافة بأنها (العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق). فليعذرني القراء أن دخلت في دهاليز هذه الكلمة، لكن القادم أحلى وألطف.
إن مفهوم ''الثقافة'' في اللغة العربية ينبع من الذات الإنسانية ولا يُغرس فيها من الخارج، ويعني ذلك أن الثقافة تتفق مع الفطرة، وأن ما يخالف الفطرة يجب تهذيبه، فالأمر ليس مرده أن يحمل الإنسان قيما ـــ تنعت بالثقافة ـــ بل مرده أن يتفق مضمون هذه القيم مع الفطرة البشرية، ويعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم الفاضلة التي تُصلح الوجود الإنساني، إنه يركز في المعرفة على ما يحتاج الإنسان إليه طبقا لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مطلق أنواع المعارف والعلوم.
الثقافة بمفهومها العام اصطلاحا تعني مجموع العلوم والمعارف والفنون والآداب التي يطلب الحذق فيها، قالوا: وغلام ثقف أي أنه ذو فطنة وذكاء، والمراد أنه ثابت المعرفة بما تحتاج إليه، وفرق صاحب المعجم الفلسفي (جميل صليبا) بين الثقافة الخاصة والثقافة العامة فقال: (والثقافة بالمعنى الخاص هي تنمية بعض الملكات العقلية أو تسوية بعض الوظائف البدنية، ومنها تثقيف العقل وتثقيف البدن)، أما الثقافة العامة فهي ما يتصف به الرجل الحاذق المتعلم من ذوق، وحس انتقادي، وحكم صحيح، أو هي (التربية التي أدت إلى إكسابه هذه الصفات).
وهناك ثلاثة مفاهيم متقاربة في مضامينها، وربما تحدث خلطا لكثير من الناس، وهي.. العلم والثقافة والموهبة، فيعتقدون أنها بمعنى واحد، وهذا أمر غير صحيح.. ربما يكون هناك متعلم مثقف موهوب، لكنهم نوادر.
وليس من الضروري أن يكون الموهوب متعلما أو مثقفا.. لكن كثيرين من ليست لديهم الموهبة يتزودون بالعلم أو الثقافة أو كليهما. |
|