آثار الذنوب والمعاصي
فقد قال الله تعالى:وَأَطِيعُواْ اللّهَسورة آل عمران:132ونهانا عن معصيته وحذرنا من ذلك؛ فالمعصية تحرم الرزق، وتمنع التوفيق، وتذهب بالنعمة، وتخرب الديار العامرة، فكم أحلَّت من محنة ونقمة، فلها سواد في الوجه، وظلمة في القبر، ولها وهن في البدن، وبغضة في قلوب الخلق، قال الفضيل - رحمه الله -: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي، وخادمي، وامرأتي، وفأر بيتي!
صاحب المعصية بعيد عن الله، ومن كان بعيداً عن ربه كان بعيداً عن قلوب الخلق.
كان حبيب العجمي - رحمه الله - تاجراً فمر بصبيان فقال بعضهم: قد جاء آكل الربا، فنكس رأسه، وقال: يا ربِّ أفشيت سري إلى الصبيان؟ فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا ربِّ، إني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة، ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فقال بعضهم: اسكتوا قد جاء حبيب العابد، فبكى.
كما أن المعاصي تُذل صاحبها للناس وكذلك تذله يوم القيامة - وهو الذُل الأعظم - فقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه، لذلك كانوا يدعون الله أن ينقلهم من ذُل المعصية إلى عزّ الطاعة.
ولما كثرت المعاصي في الأرض اليوم ظهرت الأمراض الغريبة، وتفشت بين الناس، وعمَّ الفساد البرَّ والبحرَ بما كسبت أيديهم، ومُحقت البركات، وكثرت الزلازل .
والمعاصي سبب للهزيمة والتسليط، فهل أُغرق قوم نوح وفرعون، وعذبت عاد بالريح، العقيم، وثمود بالصيحة، وهل جُعل عالي بلدة قوم لوط سافلها إلا بالذنوب والمعاصي ومخالفة الأنبياء؟ قال الله:فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَسورة العنكبوت:40.
ليس بين الله وبين خلقه قرابة، ولكنه تعالى حليم وكان ذُله لأهل الكفر آتياً، قال جبير: لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي فقلت يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: "ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله، إذا هم تركوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى".
المعاصي تضعف الدين، وتجر للفتنة، وتوجب غضب الرب، وتغمس صاحبها في النار، وإنها تقلب الموازين وتنكس الفطر، وتسود القلب، وتطفئ نور الوجه، فيرى صاحب المعصية القبيح حسناً والحسن قبيحاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفا، والمعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت، فهذا يؤدي إلى هذا.
والمعاصي لها كآبة كما قال الحسن: "إن العبد ليعمل الذنب فما يزال به كئيباً" كما يسلب صاحب المعصية الهدى والعلم كما قال الله:فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْسورة الصف:5ثم الخطر كل الخطر في سوء الخاتمة.
ومن تدبر أحوال العالم وجد أن كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله وعبادته، وكل شرٍّ في العالم وفتنة وبلاء وقحط فسببه المعصية.
إن العاصي إذا أراد الخروج من الدنيا أنَّى يوفق لحسن خاتمة؟ لذلك لا بد من ترك الذنوب، والتوبة إلى علام الغيوب، والله خلق النفس البشرية وهو يعلم أنها تعصي، كل ابن آدم خطّاء، لكن هل هو سريع الأوبة؟ كثير التوبة؟ لا يصر؟ هل هو يعمل الحسنات بعد السيئات حتى يكفرها كما قال تعالى:إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِسورة هود:114؟ هل هو صادق في توبته فيندم ويقلع ويعزم .
تذكر أموراً قبل أن تعصي الله
عباد الله:
إن في المعصية فقهاً كما أن في الطاعة فقهاً، فإذا كان العبد لا بد أن يرتكب معصية وهو سيفعلها ويفعلها فليتفكر في أمور:
أولاً:
أن يدافعها ما أمكنه وأن يسوّف في المعصية كما أن إبليس حريص على أن يسوّف الطاعة على ابن آدم.
ثانياً:
المعاصي درجات، فإن كان لا بد أن يفعل فليأخذ الأخف.
ثالثاً:
إن كان لا بد أن يعصي فليجتنب المعصية المتعدية؛ فإن الذي يقتصر شرُّه على نفس العاصي أهون من الذي يتعدى شرُّه إلى غيره، فقد يفعل إنسان معصية بينه وبين الله شرُّها عليه، ويفعل عصاة آخرون معاصٍ فيها تعدٍّ إلى أعراض الناس وأموال الناس ونفوس الناس.
رابعاً:
إن كان ولا بد أن يعصي فليكن وحده، وليجتنب المعصية المشتركة، والتعاون مع غيره على المعصية؛ فإن الله قال:وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِسورة المائدة:2فالمعصية الجماعية أقرب إلى الفضيحة والذيوع، وتقتل الحياء؛ لتواطؤ العدد على فعلها وهذا يساعد على نشرها وازديادها، ومن هذا تكوين العصابات.
خامساً:
إياك والمعاصي المتسلسلة، وذلك أن بعض الناس يفعل المعصية وراء المعصية فلعلك لو اكتفيت بمعصية ثم تبت أن تكون هذه هي الأخيرة، فإياك وتسلسل المعاصي.
سادساً:
حذارِ من فعل المعصية في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة؛ لأن ذنب المعصية في الزمان الفاضل - كالأشهر الحرم - والمكان الفاضل - كالبلد الحرام - يضاعف الذنب ويضاعف السيئة، فالذين يسرقون الحجاج والعمار، وفي الحرم وعند الكعبة، والذي ينظر النظرة المحرمة أثناء الطواف وربما يعبث بالأعراض في الحرم، أو يسافر للفاحشة في رمضان، أو يفعل هذا في مسجد.. لا شك أن سواده أعظم، وأن شؤمه أشدّ.
سابعا :
حاول ألا تطيل زمن الاقتراف؛ فإن من يستمر في المعصية مدة أطول يكون عذابه أكثر، والزمن الذي ستشغله المعصية سيحاسب عليه أكثر بعقوبة أشدّ كلما كان أطول، والنزع إذا قَصُر الوقت أقرب إلى النزع إذا طال الوقت.
ثامناً:
لا تفعل المعصية لمجرد التجربة، فبعض أهل الذنوب يُدعون إليها ولا يكون لهم بها سابق عهد ولا كان لهم بها لذة من قبل، فيدخلون المعصية من باب التجربة ثم يستمرِؤونها فيتلذذون بها أو تصبح لهم عادة فيصعب إقلاعهم عنها.
تاسعاً:
لا تفعل المعصية التي لا تتعلق بها نفسك كثيراً، فإن بعض الناس يعصي وداعي العصيان ليس قوياً، ولا شك أن الداعي إذا كان أقل إلى المعصية كان الإثم أكبر، ألا ترَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال عن الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: (ملك كذاب وعائل مستكبر وشيخ زانٍ)؟ فالعائل هو الفقير، ما الذي يدعوه للكبر؟ ومع ذلك يتكبر، فإذن: هذا كبر متأصِّل متجذِّر فيكون إثمه أشدّ من إثم الذي عنده ما يدعوه الكبر كالحسب والمال والقوة والمنصب.
وكذلك المَلِك، ما الذي يدعوه ليكذب وعنده السلطان والقوة؟ لذلك كان كذبه أشدّ، وكذا الشيخ الزاني عقوبته أشد من الشاب الزاني من هذا الباب.
عاشراً:
إذا كان الإنسان لا بد أن يعصي فليستخفِ؛ فإن المجاهرة تعظم الذنب أضعافاً مضاعفة، والعلانية به مصيبة كبيرة، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)[متفق عليه].
قال إبراهيم التيمي: أعظم الذنب عند الله أن يحدِّث العبد بما ستر الله تعالى عليه، وفي الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وعناد للمؤمنين، وتكثير لسواد العاصين، وتعدية أثر المعصية إلى الغير، والتسبب في جرهم إليها وإغرائهم بها، وكذلك التسبب في تأثيم من لم ينكر؛ لأنه يرى المجاهرة، لذلك إذا ستر نفسه فإنه أهون مع أن الكل يأثم، ويستحق العقوبة، وليتذكر العاصي حديث: (إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم)[رواه البخاري]والمستخفي أقرب إلى التوبة ويوفق للتوبة ما لا يوفق المستعلن.
ونحن اليوم ابتلينا في زمن الإستعلان بالمعاصي، والمجاهرة بالمعاصي، وكتابة التحقيقات الصحفية عن المعاصي، وهذه مصيبة عظيمة والله، حيث صارت المعاصي تمثل تمثيلاً وتصور تصويراً، وتبث على الملأ وتعلن في القنوات، ويتباهى بها على الشاشات، وتوضع على الشبكات، ويُتحدث بها في المواقع والمنتديات، فمن بارز بالقبيح فإنه يحارب من هو أقرب إليه من حبل الوريد، لذلك على الإنسان إذا غلبت عليه شهوته وسيطر عليه شيطانه أن يستتر.
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يعصمنا من المعاصي، وأن يباعد بيننا وبين أسباب غضبه، وأن يجنبنا سخطه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.