هذه قصة واقعية لا تزال عالقة بذهني لقربي من راويها وصدقه ولأثرها في القلوب
كنت حينها معلما بمدينة الرياض وتفضل عليََّ المـنان برفقة طيبة مباركة
كان من أخيرهم ـ ولا نزكي على الله أحدا ـ معلم للتربية الإسلامية اسمه عبدالرحمن
يشع وجهه نورا وقلبه تقى يغمرك حديثه بفيض سلسبيل
بكلمات مزاجها الصدق والحب والخير ...
نوى عبدالرحمن العمرة فاتفق هو وصديق له على الذهاب لمكة برا
وعقدوا العزم على المسيرة يوم الثلاثاء فودعنا نهارا لتكون مسيرتهم مع سكون الليل
يقول عبدالرحمن سرنا في طريقنا نتسامر ونتحدث ونتفكر ...
حتى إذا كنا على مقربة من منطقة قبيل الطائف قرابة الساعة الثانية ليلا
فإذا بنا نبصر قدامنا بمسافة ليست ببعيدة
نقع غبار وأنوار تتلاطم
إنه حادث ولا شك
فزدنا السرعة مقتربين وكنا أول الواصلين
فإذا بسيارة داخلها ثلاثة ركاب قد أصيبوا إصابات مختلفة لكنها لا تتجاوز الكسور والرضوض البسيطة ـ والحمدلله ـ
والأخرى المتسببة في الحادث( سيارة ونيت ) كان سائقها من البدو الذين يقطنون تلك المنطقة المعزولة عن العمران لقد
كان ينوي قطع الطريق السريع لينتقل للجهة الأخرى ( كما أخبرنا المصابون ) إلا أن القدر لم يمهله
نظرنا بداخلها فلم نجد أحدا !!
أطلنا النظر باحثين
وإذا برجل منكب على وجهه
فهرولنا نحوه
لقد قُذف من شدة الاصطدام بمؤخرة سيارته ليزحف على وجهه مسافة تقارب العشرة أمتار
لا شك أن وجهه قد انسلخ
وملامحه قد شوهت
قلبناه على ظهره لنحمله
فوالله لقد شع نورا في تلك الليلة المظلمة
بل كان مبتسما ولم يكن على وجهه آثار احتكاكه بالأسفلت
أمسكت برجليه وأخذ رفيقي بيديه لنضعه في سيارة كانت قد وصلت وأسعفت المصابين الآخرين
وانطلقت بهم لأقرب مستشفى
وعدت أنا ورفيقي لسيارتنا متأثرين ومتعجبين من نور وجه الشيخ وسلامته حتى من الخدوش
وكان ذاك حديثنا
وبينما نحن في سيرنا وإذ برائحة طيبة لم يكن لي أن شممت مثلها قط
فسألت رفيقي : هل تطيبت بطيب ؟
فقال : لا
فاستغربت لكني آثرت الصمت فلم أجد الإجابة
إلا أن الرائحة باتت تزيد فواحة كأطيب ما عرفت
وبدأ كلينا يشمها
وأخذنا نبحث عن مصدرها ...
فإذا هي بقعة دم صغيرة في ثوب رفيقي سقطت من الشيخ المتوفى
سبحانك
ذاك الشيخ البدوي كرمه الله بأن جعل دمه مسكا
ماذا كان يفعل وكيف كان يقضي يومه ليتنا نعرف لنسلك مسلكه ؟!
و عاد عبدالرحمن من عمرته والتقى بنا يوم السبت أي بعد مرور ثلاثة أيام
وما تزال في يده تلك الرائحة الطيبة التي تشبه رائحة دهن العود المتخضب بالمسك فقط لأنه أمسك برجل الميت
( وقد شممت تلك الرائحة بنفسي )
يقول عبدالرحمن والله إن هذه الرائحة في ثوب صديقه تُشم من الدور الأول والثوب معلق في غرفته
في الدور العلوي
من بقعة دم طاهرة زكية
الله أكبر الله أكبر
أرجو أن أكون قد وفقت في نقل أحداث القصة