منقول

وقفت عند إشارة مرور.. الناس مشدوهون في غمرة الحياة.. قلوبهم في أودية الأشجان.. كل شيء يبدو رتيبا.. الناس.. الإشارات .. غبار الشوارع، سواد الإسفلت.. جدران الإسمنت!!.. قسوة.. وصمت.. وهموم.. وفي لحظة ينتهك جدار الصمت بموسيقى غربية تهزّ الأرض هزّا.. ويخرج بعض الشباب أجسادهم من نوافذ سيارتهم في صراخ وصياح وهمجيّة.. ينادون على سيارة ليموزين تقف بجوارهم محملّة بالنساء: خذوا الرقم .. خذوا الرقم.. تفتح الإشارة فيسد الشباب الطريق.. ويتعطل السير.. وتتعالى أصوات المنبهات.. وجدت فتحة في الجهة اليسرى من الشارع. فنفذت بعواطفي ألا تحترق.. وخرجت بأنفاسي ألا تختنق.. وهربت كالنائحة الثكلى.. أرثي الأخلاق.. وأبكي الفضيلة.. وأترحم على الرجولة الحقّة والغيرة الإسلامية والنخوة العربيّة.. بل على أبجديات الذوق.. ومباديء التعامل الإنساني..

تخاطفتني الأفكار. وهامت بي الخواطر في كل واد.. وتذكرت هذه القصّة العظيمة.. والتي كان بطلها رجل جاهلي يسجد للصنم.. ويفضي إلى الحجر.. ويركع للصخرة.. لم يكن يعرف الله حق المعرفة.. ولم يتذوق حلاوة الإيمان.. ولم يتعرف على دين الإسلام بعقيدته الطاهرة وأخلاقه العالية الزكيّة.. ومع ذلك كان ذا غيرة حيّة.. ورجولة حقّة.. وشهامة عربيّة متدفقّة.. وما أجمل حلّة الأخلاق. وما أعظم لباس الحياء.. وما أطيب مسك المعروف والإحسان..

القصّة هي قصّة أم سلمة.. تعرفونها لأنها أصبحت بعد ذلكم أمي وأمكم وأم المؤمنين.. زوج رسول الله عليه الصلاة والسلام.. والقصة باختصار شديد:

أنها أسلمت هي وزوجها.. وكان لهما غلام صغير لم يتجاوز السنتين من عمره.. وحينما قرّرت هذه العائلة الهجرة من مكة إلى المدينة واللحاق بالنبي العظيم عليه السلام في المدينة فرارا بدينهم من أذى قومهم.. سارت العائلة الصغيرة المؤمنة قليلا حتى أحاطت بهم قبيلة أم سلمة.. وقالوا: أما أنت يا أباسلمة فليس لنا عليك من أمر وقد صبأت، ولكن لا ندعك تأخذ ضعينتنا.. فجبذوها هي وابنها.. ولم تنفع أبا سلمة محاولاته.. ثم جاءت قبيلته فجذبوا الطفل وقالوا: أنت وابنتكم.. ولكن لاندع لكم أبننا.. فتجاذبوا الصغير حتى انخلعت يده من كتفه.. وذهب به أهل زوجها.. ويا لها من لحظة حاسمة يتفرق فيها شمل الأسرة المسلمة.. وتتقطع أوصالها إربا إربا.. فإذا الزوج طريدا غريبا.. وإذا الزوجة مأسورة مكبوته.. وإذا الرضيع يتضوع جوعا بلا أم ولا أب..

تقول أم سلمة.. ومرّت سنة كاملة وأنا أخرج كل يوم إلى مكان الحادث فأبكي حتى الليل.. حتى مرّ بها أحد قومها فرّق لحالها.. وسألها ما البكاء، فأجابته بلوعة: ذهب زوجي وخُطف ابني.. وبقيت بينكم مغلوبة على أمري!! فشفع عند قومه بأن يطلقوا سراحها لتلحق بزوجها فوافقوا.. وشفعوا عند أهل زوجها فأعطوها الطفل..

تقول: فأخذت الطفل وركبت على بعيري ووضعت الطفل في حجري.. وخرجت متجهة إلى المدينة.. حتى إذا وصلت التنعيم قابلها رجل عربي جاهلي يقال له عثمان بن طلحة فسألها عن مقصدها فأخبرته.. فقال: أليس معك من يوصلك؟! قالت: لا.. قال: والله لا أدعك أبدا حتى أوصلك إلى يثرب.....

قالت أم سلمة: فوالله ما وجدت أكرم منه ولا أشرف منه.. وإنه لينيخ البعير ثم يستكنّ بعيدا حتى أنزل فأرتاح ثم أركب ويقتاد بعيري لمدّة أربع ليالي (يا شباب أربع ليالي) حتى أوصلني نخل المدينة ثم قال: هذه يثرب فانزلي حيث شئتِ.. ثم انثنى من حينه ورجع.....

الله أكبر يا للأخلاق ويا للرجولة الصادقة ويا لنبل النفس.. ويا لشرف الحياء..

ولعل هذا العمل الشريف كان سببا في توفيق عثمان بن طلحة ليسلم بعدها بسنوات في العام السابع للهجرة..

تذكرت غيرة هذا الرجل وعروبته ونخوته.. مع أنه حينها لم يعرف القرآن ولم يسمع بأحاديث المعاملات والأخلاق..

فما بال شباب التوحيد وأحفاد المؤمنين وأبناء المسلمين اليوم يكاد يقتلهم سعار الشهوة، وهيجان الفجور وهم يتلاهثون خلف أعراض المؤمنات.. و يتصيدون عفاف بنات الرجال.. وينتهكون أروقة الذوق ويدوسون مباديء الأدب جهارا على قارعة الطريق!! بل يعتلون الأسوار ويتجاوزون الأبواب للظفر بعرض مؤمنة غافلة أو جاهلة أو مضطرّة لينشبوا في خمائله أظفارهم الوحشيّة..

أين الإيمان..

أين العفاف..

أين الأدب..

فإن لم يكن ديانةً فأين غيرة الأعراب.. وأين حميّة الرجال؟!!

هل يصح أن يكون الجاهليون أكرم خلقا وأنبل نفوسا ممن يسجدون لله؟!

بل هل يعقل أن يكون الغرب الكافر أكثر ذوقا منا والقرآن والسنّة بين أيدينا؟!

أسئلة لم أجد لها إلا وجوم الحيرة.. وصدى الذهول