كنتُ قد انتهيت للتو من قراءة كتاب يترنح على أرفف المكتبة الإلكترونية حين اقتحمت خلوتي فتاة ربيعية ترتدي ألوان الطيف..بادرتني قائلة :
- بونسواغ جدتي !
خلعت عدساتي الطبية والتفت إليها مجيبة بعد دقيقة تأمل:
- مساء النور !
يبدو أنها لم تكن على ما يرام..لونتٌ شاشة الحاسب بالسواد ثم سألتها ببرود:
- لم أنتِ منزعجة إلى هذا الحد؟ الشرار المتطاير فوق رأسك ينبئ عن قدوم عاصفة!
ردت بحنق:
- النادي الرياضي بصامطة لا يسمح للمراهقات بالحضور إلا يومي الخميس والجمعة..ياله من مجتمع ظالم!
عدتُ إلى شاشتي ثم كررت بلا مبالاة:
- ستكبرين غداً ! والنمو جاري تماماً كماهي الحياة جارية..يمكنك قضاء الوقت في تصفح المنتديات.
- مللتٌ من أساليبكم القديمة التي بنى عليها العنكبوت وشرب!
قالت جملتها الأخيرة وهي تأخذ مفتاح سيارتها الوردية ومعطفها الأسود ولم يكن مزاجها بالصفاء الذي يسمح لي أن أفاتحها في موضوع البعثة التي عُرضت عليها قبل أسبوع ورفضتها لأنها في أمريكا في حين هي تريدها ببريطانيا.. التفتت إليّ قبل أن تضغط على ريموت الباب قائلة:
- بالمناسبة ..الوزارة طلبت نسخة من شهاداتك و توقيع من صاحب المنتدى الذي تعملين فيه لأجل الموافقة على التقاعد المبكر.
أفلتت ضحكة هستيرية من بين لساني وأسناني ثم قلت:
- < لا أريد أن تنتهي مهمتي التقليدية>
أجابت وهي تلوح بيدها مبتعدة:
- قديمك نديمك ياجدتي !
* * *
الساعة الآن الخامسة صباحاً بتوقيت صامطة..أقف بجانب نافذة معلقة في الدور العاشر وأتأمل أنوار المدينة الجميلة وهي تغازل أجفان الشمس..أحملق في المبنى الضخم المجاور ذي المصاعد الشفافة و الممرات الملونة الأنيقة و البوابة المفتوحة على مدار الساعة..وأتذكر كيف تسببت في سجن أحدهم حين كنت طريحة الفراش هناك..< أيعقل أن يتعطل التكييف المركزي في غرفة مريض لساعة كاملة ؟!>..أشعر بالأسى على حالي لأن صيدليتي التي عمرتها في شبابي لم تعد تبيع فيتامين واو المستهلك فيما مضى.. والمستنزف اليوم..لو كنت أملكه ...لو....!
أتوقف برهة عن التفكير ثم أذهب لإيقاظ ولدي الأصغر :
- للأسف لم يكن < أون لاين> وقتها !
أعرج نحو فتاة لا تتجاوز السادسة عشرة تلتف حول عنقها خصلات شقراء وتنام كطفل مريخي ..عفواً <ملائكي> ..أتمتم ببضعة جمل فرنسية كنتُ قد تعلمتها في محاولة فاشلة لمجاراة تفكير حفيدتي..تفتح نصف عينيها المغمضتين وتهدد بالتنازل عن إدارة المركز الثقافي للناشئات بصامطة!..أربت على كتفها : أنا لستُ وزيرة الثقافة !
تعود لوعيها ثم تتمتم:لازال الوقت مبكراً ياجدتي.. المدارس الإلكترونية تفتح في الثامنة.. !
عقلي المزدحم قلقاً على أولادي يشغلني عن تذكر هذه الأشياء.. sorry
- ! ألن تتخلي عن الإرشيف الإنجليزي ؟!كيف يمكنك الاحتفاظ بهذا الكم الهائل من التراث لفكري؟
أتجاهل سؤالها الأخير ثم أشير إلى جوارها متسائلة :
- لماذا هو مرمي ومفتوح؟
- أووووه! دونتُ مذكراتي البارحة ونسيت أن أخبئه..لو سمحتِ ياجدتي هل لكِ بإيقاف التشغيل؟
أتجه صوب ذلك اللابتوب وأضعه في كفي..توسوس لي نفسي أن أطالع الموقع الخاص بها حيث اليوميات المدونة :
- أمي وأبي..أفتقدكما كثيراً..تخيلوا أن جدتي تجبرني على حضور المدرسة يومياً..بحجة أن خدمة التصفح مجانية الآن ! لا أدري إن كان هذا سبباً لفتحه يومياً وحضور الدروس الصفية عن بعد؟!
- البارحة..صادفت أمراُ عجيباً .. وجدت بيتاً مستأجراً..!يقال أن مجهولاً يسكنه من بلد مجاور .. صديقتي الصحفية / مها كانت متواجدة وغطت الحدث !
- هنا.. لازال الناس في فوضى..فالوزير لا يزور المشاريع الحديثة إلا مرة كل أسبوع.. والطرق لا تتسع لأكثر من عشر سيارات ذهابا وإياباً! ويقول ابنكم المحترم أننا لن نعود إليكم إلا بعد أن ينهي كتابة بحث الدكتوراة..يحاول أن يثبت وجود نوع من الأوراق المخدرة التي كان يأكلها أجدادنا..يقسم أنه حصل على أناس رأوهم بأم أعينهم!
أبتسم من جديد بعد أن تتداعى إلى ذهني المنهك صور من الذاكرة الصدئة..ألملم أجهزتي الإلكترونية وأشير نحو السائق إلى الأمام..ألمح من بعيد عناوين الأخبار على الشاشات التلفزيونية المعروضة في الشوارع..وأطل على الجانب الأيمن من السيارة حيث أرى بقايا من إعلانات قديمة عن مهرجانات التسوق التي أصبحت مزاراً للسائحين.
يستوقفني رجل من برج الأسد الذي كان يحكم الغابة.. يتفرس في ملامحي ثم يتساءل:
ألستِ الأستاذة / أميرة الوله.. عميدة حزب اتحاد الصامطيات؟
أجيبه بدهشة : هي أنا!..ألازلتم تذكرون؟
يحك رأسه ثم يهمس : كنتُ قد قرأت عن موافقة موقرة بإقامة أمسية عنوانها : < المرأة..كيف كانت وكيف أصبحت؟>
أشير إلى السائق بالمضي قدماً بعد أن أخبره أنها قبل سنوات لم تكن لتجاوز منصب رئيسة تحرير صحيفة أو مديرة مدرسة تقليدية..أما اليوم فنحن نحاول مجاراة بقية مناطق الممكلة لتشارك المرأة في انتخابات الوزارة.
الآن أصل إلى مقر عملي ..أفتح باباً تلو الآخر تلو الآخر ثم أمر على قسم المتاحف حيث توجد غرفة ضخمة موضوعة داخل مبني زجاجي يتجاوز ارتفاعه العشرة أمتار..مكتوب عليها < مسؤول من العصر الحصري وافته المنية بعد أن أوصى المعماري بعدم بناء باب لدخول المراجعين,فكان أن مات لأنه لم يجد باباً للخروج ..عام2010 >
أعرج إلى أعلى المبني وألتقي بمدير الوظائف التقليدية الشاب..أسلمه بعض الوثائق القديمة لبحث الثقاعد ...يتفرس في عنوانه ثم يتمتم باستغراب:
- عفواً أختي...هناك خطأ إلكتروني..إنها <صامطة> وليست <صامتة>
أتراجع خطوة إلى الوراء..أستدعي الشواهد المحفورة في مخيلتي وأجيبه بوقار :
- بل كانت صامتة ياسيدي..
صامتـــــــــــــــة
صـــــــــــــــــــــــــــــامتة مع مرتبة الترف !
.
.
.
خربشة مساء
1-5- 2006