وللجدرا ن أحلام أخرى .
للقاصة / باشا مباركي
في هذه الدار الواسعة العتيقة لاشيء يعدو حقيقيا غير دقائق الزمن المتلاهث يطول , يقصر , يتبخر , يتصلد حتى يصير كيانا مجسدا ومحسوسا ينتشر فيملأ فراغ الصمت والعزلة ويزاحم ذرات الهواء .
في أثناء ذلك أحدثت زنزانة الباب صوتا مدويا راعدا اتجه بنظره إليها ماعساه أن يحمل له هذا الحارس من أنباء .. فإذا به يرمي إليه بمغلف صغير ومعه كيس لايعبر عن كرم صاحبه , التقطه على عجل ترى من سيتذكرني في هذا المساء البائس الذي أطبق بكل قساوة على كل التفاصيل الموحية بالحياة ..؟
فتحه على عجل فإذا بشقيقته تبثه الأشواق وتوصيه بالتجلد والصبر . أما أمه فتحاول أن ترسم بسمة زائفة على شفاهه المتعبة وترفق مع جراحها النازفة قطعة حلوى , وثلاث قطع طباشير ذوات ألوان مختلفة الأولى : ذات لون أصفر . والثانية : أبيض . أما الثالثة : فكانت ذات لون أخضر .
بدأ مظهر هذه القطع مبهجا في كآبة ورتم هذا المساء الشتائي البارد .
عاد ينظر إليها ويتأملها وهي بين يديه قبل أن يضعها بعناية في جيب قميصه .
نهض من هذا القبو وراح يمشي بخطوات ضئيلة يغالب البكاء ومرارة الأشواق تارة وهالات الحنين تارة أخرى .
وما إن أسفرت الشمس عن وجهها حتى اتجه إلى إحدى الساحات المشمسة حيث صيحات الآخرين . ومن ثم يتحول إلى صمت ينظرون إلى دواخلهم المتعبة . دفء الشمس أغراه بالمزيد من التجول تذكر أوقاتا أخرى باهتة . كــاستيقاظه للمدرسة في مثل هذه الأيام , رائحة الصباح , كوب الحليب الساخن الذي يأتيه مع جمل من الدعوات . الأوجه المصفوفة في بداية طريق الحارة عم عبد الخالق و المكوجي صديقه فؤاد و..... . تذكر ساحة المدرسة وضجيجها اللامتناهي قبل دق جرس الطابور وفريقه الذي يحاول التفوق والتميز , ابتسم ابتسامة تتحول في الغالب إلى بكاء مرير وتصطدم عيناه بتلك الجدران العتيقة .
بدأ الصمت بالانبساط لاتوقظ لحظاته إلا صوت خطوات الحراس وتأففاتهم من هذا الجو الخانق . وأصوات بعيدة ترتفع فتبدو غير مفهومة وأحيانا تخفت . إذن يعرف الجميع أنها تلاشت ولم ترتفع إلا لمعاندة الصمت . الوقت ثقيل يأبى على المضي .
فاصل كبير بين كل ساعة وأخرى من ساعات النهار .. يوم كامل لايعرف إلا الصمت والخواء .
تلفت عن يميني وأنا مازلت افترش تلك الساحة . وضعت يداي تحت رأسي وشرعت انظر للأفق . الأفق في عالمنا المهزوم هو جدران السجن العالية والعتيقة
حدقت فيها لأول مرة منذ قدومي إلى هنا قبل خمسة أشهر , فإذا بي برسوم شائكة , كتابات لم تعرف للمعرفة طريقا من فرط سذاجتها وأخطائها . عالم متكامل من الأشجار . الحيوانات . النساء . الأمثال والأشعار . البعض من اللذين كانوا يقبعون هنا سجلوا على هذا الجدار أسماءهم ومدنهم حبيباتهم وآمالهم وأحلامهم .
في ركن بعيد كُتِب ( ابن الوادي ) من ترى يكون هذا وماسر تلك الأسهم التي تنتهي إلى ( زينة ) هل هي اسم امرأة يكن لها الود وصدق المشاعر, أألتقى بها بعد خروجه أم كتب عليهما الشقاء والفراق ... أو ربما انتقل إلى سجن آخر فتاهت الأحلام ... لا لا ربما التقى بها ضروري أن امنح نفسي فسحة أمل .
أخذ مرة أخرى يجول بعينيه , وأفكاره أحيانا تكشف له متاهات غامضة لم تخطر على باله .. آمال وذكريات وغناء شفيف عذب ينداح بين الشفاه التصقت كلماته ببعضها . أخذه العجب كيف لم يلاحظ كل ذلك من زمان . لقد كانت هذه القلاع الأثرية ماثلة أمامه صباح مساء . وكم من مرة نظر إلى هذه الأشكال دون أن تعني له شيئا .. لقد اعتاد عليها حتى صار جزءا لايتجزأ من الجدران . لاتختلف في شيء عما يعلوها من خدوش وأوساخ . أما الآن فهو أمام منظر مهيب يحرك كل حواسه فيغريها بصدق التعبير .
حينها خطرت له قطع الطباشير فأخرجها وإذا بألوانها الجذابة تزداد بهاء . أخذ يتلمسها بأصابعه .. عاودته الذكرى مرة أخرى ذكرى أيام المدرسة .. وكيف كان ينتظر خروج معلمه صاحب الجثة الفريدة من نوعها والتي لاتمكنه حتى من الالتفات لليمين أو اليسار. فيأخذها فرصة لأخذ قطعة من الطباشير ويخبأها في مكان آمن , ليظفر بالشروع في رسم أحلامه الصغيرة والوادعة على جدار عم صالح . الواقع خلف دارهم .
أيضا عاودته بعض المقتطفات من تلك الأيام حلوها ومرها , الرفاق الأصحاب , المعلمون . كل الصور تتوارد في ذهنه إلا أنها بدت غريبة وبعيدة على نحو ما وكأنها حدثت لشخص آخر غيره لشدة ماكشرت الأيام بأنيابها في وجهه !!!
أخذ نفسا متقطعا شعر أن الليل أدركه , شعر برغبة شديدة في النوم . ذهب يجر رجليه المتثاقلتين .. ألقى بجسده النحيل فوق وسادته المتهالكه ..
كان نومه عميقا وهادئا . كما لم ينم منذ زمن بعيد .
في الليل رآهم جميعا ( من كانوا يتوسدون عالم الجدار ) رآهم مع أحلامهم وأفكارهم وآمالهم .. جاؤوا عبر الجدران ليشاركوه وحدته ويملؤوا عليه فراغ زنزانته الموحشة , اجتمعوا حوله وراحوا يحدثونه ويواسونه . أحس بعزلته تتلاشى والبرد ينحسر من داخله , والجدران تتراجع لتفتح آفاقا لاحدود لها وعوالم مليئة بالدفء والحب والحياة والضوء .
نهض فزعا من نومه تذكر أن هذه أحلام ستتلاشى حتما ولن تبقى .. عاد مرة أخرى للنوم , فإذا به يقع في عالم آخر وثمة ستار خفي قد أطبق عليه من كل الجوانب وألقى غشاوة بائسة على حواسه .
كان يتطلع حواليه فترتد نظراته عن سقف واطيء وجدران عتيقة قائمة متسخة بشتى أنواع الكتابات المتداخلة مع بعضها . تأمل الكتابات الأخرى المتناثرة على الجدران فإذا بها تسجل أسماء وتواريخ وأحزان وعواطف بسيطة وساذجة .
للمرة الثانية نهض مفزوعا .. جبينه يتفصد عرقا . تباشير الصباح تلوح من خلال نافذة حديدية موجودة في ركن منزوي من الغرفة . وجد باب زنزانته مفتوحا عوالم الجدران مازالت تغطي ذاكرته بغشاوة رقيقة من التقادم والإهمال كادت تحجب معالمها .
سار بوهن وثمة انكسار يرتسم على محياه .. فجأة شعر بنفسه إلا وهوأمام تلك الجدران العتيقة من حسن حظه أن أحدهم قد ترك له مساحة لا بأس بها ليعبر عما يريد .. عند أسفل الحائط كانت توجد قطعة صغيرة من الطباشير . هي ماتبقى مما استخدمه ممن أتى قبله .. تناولها تذكر قطع أمه الثلاث أخرجها وهو يتلفت كيلا يراها أحد فتذهب إليه .. وضع ذات اللون الأصفر بين أصبعيه وراح يتأمل المكان والعوالم والأشخاص ويفكر فيما سيدونه بجوار من سبقوووووووه !!!!