حروب النمل
سليمان بن إبراهيم النملة
يصدق قول الجاحظ: «فأما ما خلْق البعوضة والنمل فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند وتستخف بالآلة التي في الخلق». وتصديقًا لقول الجاحظ فإن الدب يخاف من النمل أشدّ الخوف، ولاسيما حينما تضع الأنثى ولدها، فهي ترفعه في الهواء أيامًا هروبًا من النمل؛ لأن ولد الدبّ الصغير يكون بداية قطعة لحم غير متميز الجوارح، فلا تزال رافعة له، وتحوله من موضع إلى آخر خشية النمل حتى يشتد وتنفرج أعضاؤه.
يبني النمل مملكته تحت الأراضي بالأفواه بدون أدنى صوت وبشكل هندسي خارق، ويخصص صالات للأمراء وللمقاتلين وللعمال، وقد وصل حجم إحدى الممالك إلى ارتفاع سبعة أمتار في شرق آسيا وبلغ عدد أفراد المملكة خمس مئة ألف فرد، حيث تبيض الأنثى داخل المملكة أكثر من عشرة آلاف بيضة في اليوم الواحد!!
تلك المملكة العظيمة التي خصّها الله بسورة باسمها لابد من سرٍ، بل أسرار تسر وتشرح الصدور، وتوقظ العقل، وما دامت الآية الكريمة {حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} تتعلق بالجند فسيتم التركيز إلى جانب واحد من النظام الداخلي لهذه المملكة العجيبة، وهو الحرب الذي تعتمده الملكة كغريزة مهما كان فيه من نظام للملكات الضعيفة، فملكة النمل أخلاقها لا تسمح باستخدام العبيد والرقيق وهم عادة أسرى جلبتهم من حروبها.
وفي الحروب لاحظ الباحثون أن النمل عندما تبدأ المعركة يتحرك بشكل خطوط طويلة، خصوصًا النمل الأكبر جثة والأطول والأكثر قوة. كما لاحظوا أنه عندما قُتلت إحدى الملكات
تجمّع النمل حولها وحملوها إلى غرف المملكة، علمًا بأن النمل يدفن موتاه خارج المملكة!!
ومن أعظم الحروب التي شهدها عالم النمل هي تلك التي حصلت بين مملكتين، وجرت قبل حوالي سبعين عامًا في حديقة الحيوان بلندن، فلقد كانت هناك مملكة قائمة منذ ثلاث سنوات، وبالجوار منها مملكة ثانية جديدة جلبت قريبًا ولا يفصل بينهما إلا ترعة مائية، فقام المشرف بوضع خشبة على الترعة لتصبح جسر عبور يصل بين المملكتين، وبدأت مظاهر حالة الحرب عند عبور نملة واحدة للجسر ودخولها إلى المملكة الحديثة (الثانية) ولكنها لم تعد!! فقامت المملكة القديمة بإرسال عشر نملات كفصيل استطلاع واستخبارات لجمع المعلومات فعبرت الجسر ولم تجد أحدًا فحسبت أن الملكة غافلة منشغلة بالداخل ولم تحسب أن الأمر خدعة!! وبعد اجتماع هيئة الرأي لمدة عشر دقائق، خرجت المملكة الثانية في صفوف متراصة عدا قسمًا اتجه يجلب الرمل لعمل متاريس، وقسمًا آخر هيأ المؤونة وقسمًا ثالثًا ووضع بالاحتياط (كقوة ضاربة). وعند وصول الجسر شاهدت إحدى نملات المملكة المقابلة جحافل الغزاة تعبر الجسر، ثم عادت لتعلن حالة الاستنفار القصوى فخرجت في صفوف متراصة واختارت رأس الجسر كساحة للمعركة، وأكثر مقاتليها المرابطين برأس الجسر، يقومون بإعاقة القادمين وقطع طريق العودة من المعركة.
والتحم الجانبان بقتال لا هوادة فيه، شارك فيه حوالي ألفي مقاتل من كلا الطرفين وكانت طريقة القتال تتركز على الإعاقة (كسر الأرجل) وإن أمكن الرمي بالقناة. واستمرت المعركة بشكل شبه متكافئ لمدة ثلاثة أيام حيث انسحب المقاتلون كلٌّ إلى مملكته فجأة، وظهر فيما بعد بأنها هدنة سرعان ما خرقتها إحدى النملات عندما عبرت الجسر بعد ثلاث ساعات فقط، وعادت جحافل المقاتلين أكثر احتدامًا. في ظهيرة اليوم الرابع انكسرت جموع المملكة القديمة وحاولت الهرب والانسحاب، ولكن لاحقتها جحافل المنتصرين حتى دخلت حرمات مملكتها، فقامت بنهب المخزون الغذائي وأسر صغارها. بعد ذلك اقتحم الإداريون ساحة المعركة فقاموا بحمل جرحاهم إلى داخل المملكة ودفن موتاهم أما جرحى العدو فرموهم في القناة!!
وقد خرج المراقبون لهذه المعركة الغريبة والعجيبة وغيرها من معارك بعدة استنتاجات منها:
٭ الأسرى من الكبار يرفضون الاستعباد ويفضلون الموت على ذلك. لذا لم يتم ترويضهم ليقوموا مقام الخدم.
٭ الأسرى من صغار العدو تم إطعامهم ومعاملتهم كيتامى (غدرًا وليس خدمة) ليكونوا عبيدًا وخدمًا أو مقاتلين عند أمراء المملكة.
٭ يظهر بأن الحرب أمر حتمي وتندلع لأتفه الأسباب وأن الرحمة لا معنى لها عندما يتعلق
الأمر بمصلحة المملكة مهما كلف ذلك من خراب ودمار بممالك أخرى.
٭ مبدأ الرق والاستعباد معمول به، والمملكة الضعيفة لا تستحق البقاء حسب القوانين التي تطبقها مملكة النمل.
٭ إقرار مبدأ (الكسل المطلق) لكبار المملكة ومقاتليها الأشداء، فيكون هؤلاء واجبهم القتال فقط. ومن الطريف أنهم لا يأكلون ولا يشربون بل يُقدم لهم الطعام إلى أفواههم، ومن الأطرف أنه إذا ترك الخدم إطعامهم ماتوا جوعًا رغم أن الطعام إلى جانبهم!!
٭ الاستعداد التام والتحسب الهام وأخذ الاحتياطات هي من أبرز سمات سلوك المملكة، وهي في حالة إنذار دائم لشن الحرب أو صد الغزوات.
٭ استخدام أعلى درجات الفن في التدابير القتالية، إلى حد تستحق معه أن تدخل ملفات عمليات الحرب والأركان بجدارة!!
منسوووووخ من مجلة المعرفة
![]()