اذا كان يمكن رسم منحى لصعود وسقوط القوى العظمي، فان منحنى الامبراطورية الامريكية الذى بلغ ذروته قبل غزو العراق عام 2003، بدأ يؤشر فى الاتجاه النازل، مع صعود الصين والهند كأكبر قوتين اقتصاديتين فى العالم، ومع تحول الحرب ضد العراق الى مستنقع لم تعد تعرف هذه القوة كيف تخرج منه.



ولكن، مثل كل منحنيات أخري، فانها تتطلب تأكيدا على ان الاتجاه الذى تسير فيه راسخ بما فيه الكفاية للقول انه يمثل انقلابا لا رجعة فيه. وهذا التأكيد جاء مرتين، على الأقل، هذا العام. الأول، عندما فشلت الولايات المتحدة فى ردع إيران او إغرائها، حتى الآن على الاقل، من اجل التخلى عن برنامجها النووي. والثاني، عندما أعلنت كوريا الشمالية -العضو الثالث فى "محور الشر" بعد العراق وايران- الاثنين الماضى دخولها النادى النووى باجراء أول تجربة لتفجير نووي.




الشيء المؤكد، حيال هذه المتغيرات هو ان "القوة العظمى الوحيدة" تحولت الى مسخرة بعد أقل من 51 عاما على صعودها على عرش قيادة العالم، لتكون بذلك أقصر الامبرطوريات التاريخية عمرا على الإطلاق. والفضل الرئيسى فى ذلك يعود، من دون أدنى شك، لقيادة الرئيس جورج بوش التى أظهرت كفاءة منقطعة النظير فى

الجمع بين الحماقة والغطرسة والتطرف وسوء الفهم، على المستوى العالمي.



أحد أوجه المسخرة، هو ان الولايات المتحدة ليست قادرة على مواجهة التحدى الكورى الشمالى لا عسكريا ولا اقتصاديا ولا حتى دبلوماسيا. ولعل مؤرخى المستقبل سوف يسجلون ان فشل الولايات المتحدة فى منع كوريا الشمالية من التحول الى قوة نووية، واضطرارها الى تقديم تنازلات فى التفاوض مع "النظام الدكتاتوري" فى بيونغ يانغ، لم يجعل حربها ضد العراق تبدو عدوانية وقذرة وانتهازية فحسب، ولكنها كشفت أيضا عن الطبيعة المنافقة، الى أقصى حدود الابتذال، لسياستها الخارجية التى كان يفترض ان تمثل "وجه" الامبراطورية وأخلاقياتها.



وهكذا، ومع تحول "الغنيمة" فى العراق الى خسارة صافية، ومع انكشاف مدى تهالك وانهيار معنويات القوة العسكرية الميدانية للولايات المتحدة، وعجزها عن تجنيد متطوعين جدد للذود عن "حياض الأطماع الامبريالية"، فان الرسالة الواضحة التى تتلقاها معظم دول العالم اليوم، ومن بينها إيران وكوريا الشمالية، هى ان الولايات المتحدة لم تعد سوى نمر من ورق، وانه يمكن لكل أولئك الذين يستطيعون تحمل بعض الضغوط الاقتصادية المؤقتة ان يفعلوا ما يشاؤون اذا رغبوا فى الحصول على قوة ردع نووية تحميهم من نزعات الغطرسة الامريكية.



فى ذروة قوتها، وضعت ادارة الرئيس بوش مدونة سياسة خارجية تجيز القيام بضربات استباقية ضد أى دولة تشكل تهديدا للولايات المتحدة. واحتل منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وخاصة من جانب دول "محور الشر"، حجر الزاوية فى هذه المدونة.



العراق بدا كما لو انه صيد سهل للانتهازية الاستراتيجية ولاخلاقياتها المنخفضة. ولكن سرعان ما اتضح ان الحرب ضد هذا البلد تحولت الى فضيحة عندما ثبت، للولايات المتحدة نفسها، ان العراق لا يملك أسلحة دمار شامل. وزادت الفضيحة تأججا عندما اندلعت مقاومة ضارية ضد الاحتلال أسفرت عن مقتل مقتل أكثر من 2750 جندى وجرح أكثر من 30 ألف جندى -يشكلون نحو 25% من مجموع القوات الامريكية العاملة فى العراق- فى بيئة تتعرض خلالها هذه القوات الى ما يصل لنحو 120 هجوما مع مطلع شمس كل يوم. وبرغم كل أعمال الانتقام ضد الابرياء والقتل الجماعى وتدمير المدن والقصف بالطائرات، الا ان المقاومة ظلت تزداد ضرواة، حتى بدا انه لم يبق أمام الولايات المتحدة إلا أحد خيارين: أن تلعق جراحها وتنسحب لتواجه الفضيحة، أو أن تلعق جراحها وتبقى لتزيدها عمقا.



ايران انتهزت الفرصة لتشرع ببناء برنامج نووي. فلم تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها سبيلا لمواجهتها الا بالاغراءات و"حزمة الحوافز"، وذلك لأن النمر الورقي، وإن كان ما يزال قادرا على القصف والتدمير، الا انه لم تعد تتوفر لديه الامكانيات الميدانية لتحويل هذه القدرة الى نصر عسكري ولا سياسي ولا اقتصادي.



وبما ان الكثير من، ان لم يكن جميع، القرارات الاستراتيجية المتعلقة بدول منطقة الشرق الأوسط تتخذ من جانب تل أبيب، لا واشنطن، فقد كان مما له دلالات أكيدة على انهيار سياسات التهديد بالقوة، أن أعلنت حكومة إيهود أولمرت الخميس الماضي "عدم تأييد حل عسكري ضد البرنامج النووي الإيراني".



وقال أولمرت عقب اجتماع للقيادة الأمنية الإسرائيلية العليا للتداول فى البرنامج النووي الإيرانى وسبل مواجهته بمشاركة وزراء الدفاع عمير بيرتس والخارجية تسيبي ليفني والأمن الداخلي أفى ديختر والنائب الأول لرئيس الوزراء شمعون بيرس ووزير شؤون المتقاعدين رافى ايتان -الذى شغل مناصب رفيعة فى المخابرات الإسرائيلية- ونائب رئيس الوزراء ايلي يشاي إضافة إلى رئيس الأركان دان حالوتس ورؤساء أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد والشاباك وشعبة الاستخبارات العسكرية "إن المجتمع الدولى هو الذى يقود الجهود السياسية الهادفة لإحباط البرنامج النووي الإيراني" وذلك لكى يحرر واشنطن، فيما يبدو، من أية ضغوط اسرائيلية سابقة لتوجيه ضربة عسكرية لايران. وقال أولمرت إن "التجربة النووية الكورية تؤكد إشكالية المشروع النووي الإيرانى الذى يتوجب مواجهته بأسرع ما يكون ومن خلال وحدة المجتمع الدولي... وإسرائيل تؤيد الجهود السياسية لإحباط هذا البرنامج من خلال فرض عقوبات على إيران ورفض التسويات التي من شأنها أن تمكن إيران من مواصلة برنامجها النووي".



وعلى أية حال، لم تعثر واشنطن التى كانت تمارس سياسات صقورية تجاه العراق -وهو الذى لم يملك أسلحة دمار شامل- سوى ان تتصرف كقطة من دون مخالب تجاه كوريا الشمالية. اذ قال الرئيس بوش فى أول رد فعل علني على انباء التجربة النووية الكورية، وقد بدا عليه الإرتباك، "اعتقد جازما ان افضل طريقة للتعامل مع النظامين فى كوريا الشمالية وايران هي عبر اكثر من صوت"، مشددا على ان "رسالة الولايات المتحدة لكوريا الشمالية وايران ولشعبيهما هى اننا نرغب في حل المسائل سلميا".



حل "المسائل" سلميا، أخيرا، هو كل ما بقي لدي الولايات المتحدة في مواجهة "محور الشر"، وهو كل ما بقي من استراتيجية الضربات المسبقة.



مع ذلك، ولكي لا يبدو الزمام فالتا، فقد وجد الرئيس بوش بضع كلمات أخرى، حيث قال "اننا نعمل مع شركائنا فى المنطقة وفى مجلس الامن الدولي لكي نضمن ان يتحمل نظام بيونغ يانغ التداعيات الخطيرة" لتجربته النووية، و... ان القرار الذي تجري حاليا مناقشته في مقر الامم المتحدة "يجب ان يضع سلسلة من الاجراءات لمنع كوريا الشمالية من تصدير التكنولوجيا النووية او تكنولوجيا الصواريخ".



وليس من المرجح ان يتوصل مجلس الأمن الذي كان سيجتمع يوم الجمعة -13/10 - الى اتخاذ قرار يفرض عقوبات صارمة. وقالت الصين، التي تعد الحليف الوحيد لكوريا الشمالية، إنها تعارض فرض عقوبات اقتصادية تؤدي الى الاضرار بالشعب فى كوريا الشمالية، كما انها تعارض القيام بأي عمل عسكري لحل الوضع. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية ليو جيان تشاو "نحن نؤمن بأن إزالة الأسلحة النووية والحفاظ على السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية يخدم مصالح جميع الأطراف على نحو أفضل". وحث ليو جميع الأطراف على التهدئة، ودعا إلى استئناف المحادثات السداسية التى توقفت فى نوفمبر-تشرين الثانى الماضي.



وفى محاولة لقطع الطريق على واشنطن، قالت بيونغ يانغ انها ستعتبر اي "رد قاس" بمثابة "اعلان حرب". وكانت الولايات وزعت نصا بعد يوم طويل من المشاورات، الثلاثاء، بين ممثلي الدول الخمس الدائمة العضوية فى مجلس الامن -الصين والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا- واليابان.



وابقت الصيغة المعدلة للنص الاشارة الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة التى تعطي مجلس الامن صلاحيات واسعة بما في ذلك اللجوء الى الوسائل العسكرية لمعالجة "التهديدات التي يتعرض لها اللسلام او لمعالجة العمليات العدائية". ولكن الخلاف الرئيسى ظل يدور حتى مساء الاربعاء الماضى حول مدى استخدام الفصل السابع فى فرض العقوبات المحتملة. وقالت بكين انها تريد خصوصا ان يقتصر الامر على المادة 41 التى تنص "اجراءات لا تتضمن اللجوء الى القوة" كما ترغب فى ادراج عناصر اكثر ايجابية فى النص مثل تشجيع كوريا على الحوار وتقديم حوافز للتعاون.



وبالكاد يدعو النص كوريا الشمالية الى "الامتناع عن اجراء اية تجربة نووية اخرى او اطلاق صواريخ بالستية" والى التراجع عن قرارها الانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي. كما يقضي بفرض عمليات تفتيش للشحنات البحرية المتوجهة من والى كوريا الشمالية وفرض عقوبات مالية على بيونغ يانغ التى يدعوها الى التخلى عن كل برامجها لتطوير اسلحة نووية وغيرها من اسلحة الدمار الشامل "بشكل كامل ويمكن التحقق منه ولا يمكن العودة عنه". ويدعو القرار بيونغ يانغ الى "العودة فورا وبدون شروط مسبقة الى المفاوضات السداسية" التى تجري منذ 2003 بمشاركة الكوريتين والولايات المتحدة وروسيا والصين، بهدف اقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن برنامجها النووي.



وفى محاولة لتفسير الانحسار فى النزعة الصقورية لدى واشنطن، نقلت "نيويورك تايمز" تقريرا للجنة مجلس الشيوخ الاميركي حول الاستخبارات يقول ان "هناك الكثير من الامور التى لا نعرفها حول كوريا الشمالية -...- الولايات المتحدة تنقصها معلومات مهمة لازمة للخبراء من اجل كتابة تحاليلهم بيقين".



والتقرير الذي حمل عنوان "الاعتراف بكوريا الشمالية كتهديد استراتيجي: التحدي بالنسبة للولايات المتحدة في مجال الاستخبارات"، يعبر عن قلق حيال ثغرات اجهزة الاستخبارات الاميركية في حين تشكل فيه كوريا الشمالية "تهديدا استراتيجيا محتملا يستوجب حصول الولايات المتحدة على معلومات دقيقة للاستعداد للاستفزازات الكورية الشمالية وتقييم نوايا بيونغ يانغ".



ووضعت "نيويورك تايمز" ختمها المطاطى على هذا الاستنتاج قائلة "ليس هناك من حل عسكرى لا سيما وان خبراء الاستخبارات ليس لديهم فكرة اين تخفى بيونغ يانغ مختبرات التسلح التابعة لها او مخزونات البلوتونيوم".



ولكن الشيء الحقيقي الذى ليس لدى "خبراء الاستخبارات" أى فكرة عنه، هو ان منحنى سقوط الامبراطورية يتحرك سريعا فى النزول الى الأسفل، أولاً، بفضل سياسات غطرسة لم يعد العالم قادرا على تحمل المزيد منها، وثانيا، لان استخدام أقصى ما لدى الولايات المتحدة من قوة ضد بلد محدود القدرات العسكرية لم يثبت، حتى للانتهازيين أنفسهم، انه وصفة ناجحة للتفوق. وثالثا، حتى وان كان الاقتصاد هو حجر الزاوية للمشروع الامبراطوري الامريكي، فالحقيقة هي ان الولايات المتحدة خسرت مكانتها كأكبر قوة اقتصادية فى العالم لحساب الصين والهند. والوقت قد لا يطول قبل تتساقط مقومات تلك المكانة السابقة بانهيار الدولار تحت وقع ضربات العجز التجاري وارتفاع أسعار النفط وانتقال المزيد من الحافظات النقدية -البنوك والشركات- الى التعامل بسلة عملات بدلا من الإكتفاء بالصلاة فى محراب الدولار وحده.



مريم عبد الحميد

عن العرب اونلاين