نص خطبة الجمعة
19/10/1427هـ
بيت حانون ..
مدينةٌ وادعة تقع شمال شرقِ غزّةَ ..
مدينةٌ خصبةٌ تجودُ بالبرتقال والتين والموز والتفاحِ ..
مدينةٌ ولودٌ تلدُ الأبطال والعظماء .. وحسبُها أنّها مولدُ صلاحِ الدينِ .. مؤسس كتائب القسامِ .
مدينةٌ أبيّةٌ ترفضُ أن تكون باكيةً رغم طوفان البكاء ! وتأبى أن تكونَ ذليلةً رغم جبروت الأعداء !
مدينةٌ عاشقةٌ للنصرِ رغم مستنقعات الهزيمةِ التي تحيط بها ! انتصب في قلبها منذ سبعمئةٍ وخمسين عاماً جامعٌ اختارت أن تسميه جامع ( النصرِ ) .
مدينةٌ تردد بالليل والنهار قول المولى سبحانه : ((ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) [ الطلاق : 3 ] .
مدينةٌ حيّيةٌ تكرهُ الأضواءَ والشهرةَ .. لكنّها حين تعودُ إليها تعودُ بما يُذهلُ العقولَ .
هاهي تعود إلينا الآن ..
تصافحُ أسماعنا من جديد ..
تعودُ كعادتِها .. قويةً رغم الجراح .. باسمةً رغم الألم .. ضاحكةً في وجه الردى العبوس !!
يابيت حانون ..
أحرجتِ من قال غاليتِ من رمى بالتطرفْ !
إن التوسط موت أقسى وسموه ألطفْ
وعندك الجبن جبن ما فيه أجفى وأظرفْ
إلى المدى أنتِ أهدى وبالسراديب أعرفْ
لأن همكِ أعلى لأن قصدكِ أشرفْ
فلا وراءكِ ملهى ولا أمامكِ مصرفْ
قد يكسرونكِ لكن تبدينَ أقوى وأرهفْ
قد يقتلونك تأتين من آخر القتل أعصفْ
لأن جذرك أنمى لأن مجراك أريفْ
لأن موتك أحيا من عمر مليون مترفْ
فليقذفوك جميعا فأنت وحدك أقذفْ
سيتلفون ويزكو فيكِ الذي ليس يتلفْ
يا بيت حانون ياكتاباً من كل قلب تألف
ويازمانا سيأتي يمحو الزمان المزيف
[ البردوني بتصرف يسير]
أيها الأحبة ..
بقايا الدمع لم تزل في أعيني وأعينكم !
ومرارة الألم لم تزل في قلبي وقلوبكم !
ونيرانُ الغيظِ لم تزل تؤجّ في روحي وأرواحكم !
ولهيب الغضبِ مشتعلٌ قطعاً فيّ وفيكم !
إنّ سقوط شهيدٍ كلَّ نصف ساعةٍ خلال الأيام الماضية العصيبةِ أمرٌ يثير الجنون !
واستشهاد أحد عشر فرداً من أسرة واحدةٍ أمرٌ لا تبقى معه لذي سكينةٍ سكينةٌ .
وسقوطُ النساء العجائز قتلى وجرحى على أرصفةِ الطريقِ شيءٌ تخرّ له الجبال هداً .
أن يسقط خمسون شهيداً ومائتان وخمسون جريحاً بلا جريرة ولا ذنبٍ شيءٌ تكادُ تنشقُّ له السمواتُ .
ثمّ أنْ تبارك الدول العظمى هذه المقتلة .. وتمسحَ رأس القاتلِ .. وتعظُ القتيل شيءٌ يبعث على الجنون !
ما جرى في بيتِ حانونَ ليس جديداً .. هو تكرارٌ لحكاياتٍ مرةٍ مضت .. صبرا وشاتيلا ، وأم الفحم ، وجنين ، ودير ياسين .
ولكنّ الملفتَ حقاً في هذه الأحداثِ هو دور المرأة المسلمةِ !
فالمجاهدون السبعون الذين حوصروا في جامع النصرِ كان خروجهم من الحصار – بعد فضل الله – بسبب نساء بيت حانون اللائي تجمّعن بالآلاف ، وتحدين الموت ، ودخلن إلى المسجدِ ، وغطين كرَّةَ الأبطال المجاهدين .
وشهدت بيتُ حانون لنسائها بأنّهنّ " جئن في اللحظة المناسبة.. والزمن المناسب.. والمكان المناسب.. ليسجلن موقفـًا نحن في أمس الحاجة له وسط هذا العجز والانكفاء العربي، وفي زمن الهرولة ولحظات الخوف ومبادرات التصفية، وجولات الوفود المكوكية التي اختلطت فيها العيون الزرقاء بالعيون السوداء، والعيون الوجلة المنكسرة بالعيون الحادة الوقحة.
لقد خرجن من ركام انكسارنا، وقمقم هواننا، ليقذفن بأنفسهن في أتون الموت من أجل أن (نعتدل) في جلستنا، وحتى نرفع رؤوسنا قليلا بعد حقبة من الطأطأة الطويلة!!
نساء بيت حانون:
يا أيقونات المجد.. وعناقيد الفخر..
يا رمز (الحرائر العربيات) وعنوان (النخوة)
لقد تركتن إرثـًا صعبـًا
ولقد أخجلتنَّ رجولتـنا." [ فقرة من مقالة لعادل أبو هاشم ]
هذه البطولات النسائية الفلسطينية الرائعةِ .. أذكرتني دعاوى أدعياء مناصرة المرأة !
في بلادنا هذه .. وفي غيرها .. يصوّر بعضُنا النضال النسويّ الذي يستحق الإشادة بأنّه النضال لقيادة المرأة السيارة ! أو النضال لخلع حجابها ! أو النضال لاختلاطها مع الرجال بلا حاجز من حياء أو حشمة !!
أفقن يا نساء بلادي !!
أفقنَ وانظرن إلى أخواتكنَّ كيف يناضلن من أجل المرأة .. من أجل الوطن .. بل من أجل الدين الحق !
أفقن واتركن ثرثرة الثرثارين الذين يبحثون عن خروجكنّ لا من بيوتكنّ وإنما عن دينكنّ وأخلاقكنَّ !!
أنا لا أقول لكنّ احملن سلاحاً ..
ولا أقولُ اخرجنَ مقاتلاتٍ ..
وإنما أقول لكنّ .. تعلمن من نساء بيت حانون كيف تضحي المرأة من أجل دينها ..
فضحّين أنتن .. ضحّين من أجل تربية جيل النصر .. ضحين من أجل الدعوة إلى الله .. ضحين من أجل بناء مجتمع مسلم متماسكٍ .. ضحين من أجل القيام بواجبات الله عليكنّ عبادةً ونسكاً .
أدركنَ أنّ النضال النسويّ الصحيح هو ذلك الذي يعيد المرأة المسلمة إلى كنف دينها .. لا أسيرةً مقيدةً .. بل عزيزةً مصونةً مكنونةً ! لا عاجزةً مكتوفة اليدين .. بل عاملةً في إطارها وميدانها الذي لا يحسن الانطلاق فيه غيرها .
كنَّ كما وصف الله : (مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ) [ التحريم : 5 ]
أيها الأحبة ..
لم تكن تلك الهبة النسائية العظيمةُ كل بطولات نساء بيت حانون !
كانت هناك ميرفت .. بطلة سرايا القدس .. التي اختارت أن تموت في سبيل الله ..
وكأنّي بها قبل أن تعزم عزمتها .. وتفعل فعلتها المباركة .. أمسكت بقلمها وخطت هذه الكلماتِ ..
فلنمض بقيةَ خطبتنا نصغي لما أحسبها قالته في رسالتها..
من فدائيةِ بيتِ حانونَ على أرض العزة والكرامة والرباط
إلى الأمة المسلمة في شرق الأرض وغربها
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعــد ،،،
فعندما تصلكم هذه الرسالة أكون أنا قد فارقت الدنيا إلى الآخرة ، ونأيت بروحي عن هذه الفانية ، ورجوت ما عند ربي من دار باقية .
عندما تصلكم هذه الرسالة أكون أنا قد تمزقت أوصالا وأشلاء بعد أن أخذت معي نفرا من يهود الكفر والبغي والحسد .
أيها المسلمون
لست أكتب لكم هذه الرسالة استصراخا بكم ، و لا استنجادا ، ولا طلبا للعون فقد علمتنا ستون سنة كاملة من الصراخ والعويل أن أمتنا لا تحسن غير الخطب العصماء ، والمقالات الرنانة ، والشجب والإدانة والاستنكار .
علمتنا ستون سنة عجافا ، أن نرفع أيدينا إلى خالقنا ، ونجعل من دمائنا رسائل صدق إلى مولانا .
علمتنا ستون سنة كاملة من القهر والخسف والضيم أن نعتمد بعد الله على أنفسنا ، وأن ندرك حقيقة قوله تعالى : (( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء )) .
علمتنا ستون سنة أننا لن نأخذ حقنا من اليهود إلا بأيدينا .
قد قررت أن أجعل من نفسي فداء لهذا الدين ، أن أبذل روحها وأفجر جسدي نصرة للحق الذي أعتقده .
في سبيل الله أمضي
وعلى هدى كتاب الله قد
أحكمت نبضي
أرتدي الفجر وأمضي في سبيلي
فإذا الشمس دليلي
وإذا الأنجم في قلبي وأعراس النخيل
لقد كان قرارا مصيريا اتخذته بكل إيمان وقناعة .
لا تلوموني على هذا القرار .
لقد أحببت الشهادة ...
إنني سمعت قوله تعالى : (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، يسبتشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ))
وسمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيتقل عشر مرات لما يرى من الكرامة )) [ البخاري ومسلم ]
وسمعت قوله صلى الله عليه وسلم : (( رأيت الليلة رجلين أتيا فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قالا لي : أما هذه فدار الشهداء )) [ البخاري ]
وسمعت قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة )) [ الترمذي وقال حسن صحيح ]
وقرأت قوله صلى الله عليه وسلم : (( للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دَفْعةٍ ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه )) [ ابن ماجه والترمذي وسنده صحيح ]
قرأت هذا كله فتقت إلى الشهادة وأحببت أن يكون دمي ثمنا لنعيم الجنة وأجرها .
لا تلوموني على ما فعلت
لقد رأيت ما لم تروا . وعشت ما لم تعيشوا .
لقد قتل أبي أمامي . وانتهك عرض أمي وأخواتي . ودمر بيتي .
كيف لا أثأر من هؤلاء القرود ؟
من يطالبني بأن أرى العار في نفسي وأسكت ؟
أقول لكم :
لا نهاية للدم
إنّ الحمام المطوق ليس يقدم بيضته للثعابين
حتى يسود السلام
فكيف أقدم رأس أبي ثمنا ؟
من يطالبني أن أقدم رأس أبي ثمنا كي تمرّ القوافل آمنة
وتبيع بسوق دمشق حريراً من الهند أسلحة من بخارى
وتبتاع من بيت جالا العبيد ؟ [ ديوان أمل دنقل 340 ]
ألم ينته إلى أسماعكم خبر أمّي فاطمةَ ذات الثمانين عاماً إذ اخترقت صدرها رصاصتان قاتلتان وهي على شرفة منزلها تنظرُ كيف يستبيح الفجرة عفة مدينتها ؟
ألم ينته إلى اسماعكم خبر استشهاد 12 فلسطينيا في ساعة واحدة ؟
ألم ينته إلى أسماعكم خبر استهداف سيارات الإسعاف ؟
ألم ينته إلى اسماعكم خبر انتهاء مخزون الدواء ؟
ألم يبلغكم خبر أخي مروان الذي دُمِِّر بيتُهُ فوقه وفوق عائلته فماتوا أجمعين ؟
هل رأيتم أو سمعتم عن شيء أبشع من هذا ؟
لا تلوموني على ما فعلت
لقد رأيت إخواني وأخواتي يسبقونني إلى هذه الفضيلة فلم أملك إلا ان ألحق بهم وأتبع خطاهم . سمعتُ إحداهنّ تقول في وصيتها : (لأن الجسد والروح كل ما نملك، فإني أهبه في سبيل الله لنكون قنابل تحرق الصهاينة، وتدمر أسطورة شعب الله المختار، ولأن المرأة المسلمة الفلسطينية كانت وما زالت تحتفظ في مكان الصدارة في مسيرة الجهاد ضد الظلم، فإني أدعو جميع أخواتي للمضي على هذا الدرب، ولأن هذا الدرب درب جميع الأحرار والشرفاء، فإني أدعو كل من يحتفظ بشيء من ماء وجه العزة والشرف، للمضي في هذا الطريق، لكي يعلم كل جبابرة الصهاينة أنهم لا يساوون شيئاً أمام عظمة وعزة إصرارنا وجهادنا، وليعلم الجبان شارون بأن كل امرأة فلسطينية ستنجب جيشاً من الاستشهاديين، وإن حاول وأدهم في بطون أمهاتهم على حواجز الموت، وإن دور المرأة الفلسطينية لم يعد مقتصراً على بكاء الزوج والأخ والأب ) [ من وصية عائشة أبو دارين رحمها الله ]
قرأت هذا الكلام المكتوب بالدم فلم أملك إلا أن أوقع عليه بالدم .
لا تلوموني على ما فعلت ..
لقد رأيت اليهود يمعنون في امتهانكم وإذلالكم دون أن ترد عنكم مدافعكم وأسلحتكم ، فأرد أن أحفظ ماء وجه هذه المدافع اللامحة ، والدبابات المجنزرة ، أرد أن أعيد إلى الأمة بعض اعتبارها ، وبعض الهيبة التي لم تحافظ عليها الترسانات الهائلة .
لا تلوموني على مافعلت
لقد صبرت سنين طوالا ، وأنا أتتبع المفاوضات والأحاديث والنقاشات ، ولم أجد ذلك كله حقن دماء إخواني ولا حفظ لي أرضي ولا حمى لي عرض .
فعرفت أن اليهود قوم لا يفهمون هذه اللغة ، فقررت أن أفهمهم بطريقتي الخاصة .
لغة النار حين يستعجم الفهم يعيها الجميع دون تراجمْ
رددتها الأبطال في كل سمع لصداها في العالمين زمازمْ
لقد وعيت جيدا أثر دمائي إخواني الشهداء على يهود الغدر والكفر فأردت أن أزيد في الشعر بيتا .
اطمئنوا أيها المسلمون ...
إننا نشعر بحقيقةمعنى قوله تعالى : (( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون )) .
لا تلوموني على ما فعلت
أنا لم أطلب الكثير . ولم أكن ظالمةً .
أنا طلبت أن أعيش كما يعيش الناس . في أمان وعافية .
أردت أن آكل كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، وأجلس مع أهلي كما تجلسون . ولكن العدو حرمني ذلك كله .
أنا لم أطلب شيئا ضخما ..
ولا أطلب المستحيل
ولكنه العدل
هل يرث الأرض إلا بنوها ؟
وهل تتناسى البساتين من سكنوها ؟
وهل تتنكر أغصانها للجذور لأن الجذورتهاجر في الاتجاه المعاكس ؟
والصدر حتى متى يتحمل أن يحسب القلب
قلبي الذي يشبه الطائر الدموي الشريد [ ديوان أمل دنقل 338 ]
لا تلوموني على ما فعلت
والله لو كانت لي مئة نفس لأزهقتها في سبيل الله واحدة واحدة لأراغم هؤلاء الملاعين .
لقد اتخذت قراري وانتهى كل شيء .
لففت الموت حول عنقي ، وتجلببت بالفناء ، ومضيت أحث الخطى إلى حيث يتترس عدوي بأقوى الأسلحة ، وأفتك المدافع والرشاشات .
ومضيت وعزمي يسبقني ، وروائح الجنان تملأ خياشيمي ، وأحلام الشهادة تداعب مخيلتي .
مضيت لم ترتجف لي يد ، ولم تعثر لي خطوة ، ولم يطرف لي جفن.
مضيت سعيدة أترنم ، وكأني ذاهبةٌ إلى عرس ... بلى إنني ذاهبةٌ إلى عرس هو أجمل من كل أعراس الدنيا .
والآن أستودعك الله أيتها الأمة المسلمة .
أستودعك الله أيها الأقصى .
أستودعك الله يا فلسطين .
الآن ... أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .