إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون "
" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما " .. أما بعــد :
***
أيها الأخوة والأخوات .. كان الطرح ولا يزال عن معائب ومثالب المرأة ( المرأة والتبرج .. المرأة والمعاكسات .. المرأة والإعجاب .. المرأة وكثرة الخروج إلى الأسواق .. المرأة والنشوز والطلاق .. المرأة ورقة الدين بل لعل مما يُنابز به بعض الرجال أن يقال له " دين امرأة " .. ) قائمة طويلة من المعائب والمثالب ..
وأنا لا أنكر وجود هذه الظواهر ولكن الذي لا نرتضيه جميعاً أن نقدم المرأة من خلال هذه الصورة القاتمة وننسى الوجه المشرق للمرأة ..
أيها الداعية ..
وأيها الواعظ ..
وأيها الخطيب الذي لطالما أهززت أعواد المنابر ..
ويا أيها المجاهد في ساحات الوغى ..
يا أيها الناس جميعاُ .. أفلا نعلم جميعاً أننا نتاج لتربية الآباء ومعهم الأمهات ..
بل حتى أنت يا من انحرفت عن جادة الحق والصواب كم وكم عاتبتك أمك أو أختك عن سلوك هذا الطريق المنحرف .. ولك كم تمنت لك سلوك طرق الخير ولكن لا مجيب ..
إن المرأة المعاصرة والتي سنتحدث عن بعض الصور الناصعة من حياتها .. هي التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام " الدنيا متاع وخير متعاها المرأة الصالحة " رواه الإمام مسلم .
هذه المرأة الصالحة التي يقرّر الشرع أنها من خير متاع الدنيا ما زالت بحمد لله تعالى على مر العصور حاضرة وظاهرة .. فالشارع لم يقصرها على وقت دون آخر ..
أيها الأخوة والأخوات .. إن مما دعاني للحديث عن حول هذا الموضوع أمور منها :
1 ـ إنصاف المرأة في حديثنا عنها ، وهذا من العدل الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى " وإذا قلتم فاعدلوا "
2 ـ أننا جميعاً لا نرتضي تعميم حكم الانحراف على جميع النساء وفيهن من لها القدح المعلّى في السبق إلى الخيرات والدعوة إليها ..
3 ـ تثبيت الصالحات وخاصة ممن يعشن في بيوت لا تمت للالتزام بصلة بل قد تكون في هذا البيت مثار للسخرية والاستهزاء .. نذكر ذلك لنقول لهذه ولغيرها معكِ في الطريق كثر بحمد الله تعالى فإن المسافر يأنس في السفر بصاحبه .
4 ـ نداء للفتاة التي لن تستقيم على شرع الله تعالى لنقول لها من خلال ذلك " دونكِ هذه النماذج من الخيرات يعشن معنا وبيننا حتى لا تقولي للداعية إذا ضربت لكِ شيئاً من سير الصحابيات والتابعيات : أولئك يعشن في غير الزمن الذي نعيش فيه ..
5 ـ إغاظة للشائنين والمناوئين للمرأة لنقول لهم : مهما بذلتم جهدكم لجعل المرأة ألعوبة في أيديكم فإن في نساءنا خير كثير بحمد الله تعالى لن تؤثر فيها سهامكم الواهية .. ولا شك أن إغاظة هؤلاء قربة يتقرب بها العبد إلى ربه والله تعالى يقول " ولا يطئون موطناً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح " ..
أيها الأخوة والأخوات .. لقد جاء نسق هذه المحاضرة من خلال قصص قد وقفت عليها جميعاً حتى تأكدت من صحة حدوثها ووقوعها .. بل لعل مما يُبشّر به أنه ورد إلي عدد ليس بالقليل من القصص مما يدل على وجود الخير الكثير بحمد الله تعالى في نسائنا ..
وإنما عمدت إلى أسلوب القصة لأن التربية في القصة منهج ربّاني كما قال الله تعالى " وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك "
ولأن إيراد القصة أسلوب ومنهج نبوي كريم كما ورد في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " متفق عليه
وما زال سلف الأمة يأنسون بذكر القصص ويتناقلونها فيما بينهم حتى قال أبو حنيفة رحمه الله " الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه لأنها آداب القوم وأخلاقهم "
وقال آخر " استكثروا من الحكايات فإنها درر وربما كانت فيها الدرة اليتيمة "
أيها الأخوة والأخوات .. هي صور حية وقعت على أرض الواقع ليست بكلام إنشائي جميل من منظومة يجب أن نفعل كذا ولا يجب أن تفعل كذا وصدق من قال : فعل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل لرجل .
هي قصص حرصت أن تكون من القصص التربوية الإيمانية الهادفة ، تحمل الفكرة السامية ، والهدف النبيل ، والمبدأ الفاضل ، ولعلنا نشرع في المقصود بمشيئة الله تعالى سائلاً منه الإعانة والتوفيق من خلال العناوين التالية :
1 ـ عاشقة الجهاد
2ـ خنساء هذا العصر
3 ـ دحداحة هذه الأمة
4 ـ أسيرة طلب العلم
5 ـ وفي الليل لهن شأنٌ
6 ـ الهمة العالية
7 ـ المكلومة
8 ـ الخاتمة الحسنة
ولقد عمدت كما يظهر لكم أيها الأخوة والأخوات من خلال هذه المحاضرة إلى أن تكون هذه القصص من خلال ظروف متعددة فهذه في الجهاد وأخرى في الصبر وأخرى في قيام الليل وهكذا دواليك ..
على أنني سأذكر تحت كل عنوان قصة وربما عمدت إلى ذكر قصتين ولا أزيد على ذلك .. ومما يجدر التنبيه عليه أن هذه القصص إنما حصلت لنساء في هذا الوقت .. بل حرصت على أن يكن من الشابات حتى تتحقق القدوة والله المستعان ..
***
القصة الأولى ( عاشقة الجهاد )
تقول هذه الأخت في رسالتها التي سطرتها بيدها وقد قمت باختصارها لطولها مع المحافظة على بنية القصة الأساسية ..
حيث تقول : لقد كنت أسمع بها وأراها رمزاً رائعاً بل إنني وضعتها لهدفاً أتمنى أن أصل إليه .. أتدرون ما هي .. إنها " الشهـــــادة " ..
القتل في ساحة المعركة .. عندما كنت أرى صور القتلى الذين نحسبهم بإذن الله شهداء ..
كان داخلي يضج بالأفكار والخيالات والدعوات والابتهالات .. أتذكر ذات مرة عندما كنت في المرحلة الثانوية كنت مع إحدى الزميلات نتحدث ولعلكم تعرفون ما يؤرق بنات هذه المرحلة فكنا نتحدث عن فتى الأحلام .. فلما جاء دوري قلت لزميلتي سأتكلم بشرط ألا تخبري أحداً بذلك .. وألا تضحكي علي ساخرة .. قالت أحاول .. قلت أتمنى أن أتزوج شهيداً ..
صرخت ضاحكة ثم قالت : أتريدين الخلاص منه قبل مجيئه ! ..
كانت نفسي والله الذي لا إله إلا هو تًتوّق دائماً إلى الجهاد والمعارك والشهادة على الرغم من كوني من أسرة صارمة نوع ما .. في وسط لا يشبع هذه التوجهات ولعله يراها من إضاعة الوقت أو التزمّت إلا أن هاجس هذه الأمور كان يعيش بداخلي ..
قلبّت نظري في كثير من أشرطة الجهاد .. لا أخفيكم سراً أن الأمر جداً شاسع بين الحقيقة والصورة ..
في الحقيقة خوف وظلام .. جوع وعطش .. برد وصقيع .. رصاص وقنابل وألغام .. أسر وتعذيب وتشويه .. هذا طريح وهذا جريح ..
أما في الصورة فالأمر على خلاف ذلك .. مشاهد ومقاطع .. وحصيلة القتلى كذا والجرحى كذا ثم ينتهي كل شيء ..
ومع ذلك كانت النفس وما زالت تتمنى الجهاد .. تحركها القارئ بصوته الرنّان وهو يتلو قول الله تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم "
والآخر أتأمل قوله وهو يترنّم :
هذي بساتين الجنان تزينت – للخاطبين فأين من يرتاد "
والآخر حين ينشد أمام صديقته المقتول :
فإن لم نلتقي في الأرض يوما – وفرق بيننا كأس المنونِ
فموعدنا غداً في دار خلدٍ – بها يحي الحنون مع الحنونِ
هل أحسستم الآن بمعنى ما أتكلم عنه .. وهل أدركتم نوع الشعور الذي اجتاح نفسي .. تعالوا الآن لأحدثكم عن شيء في نظري ، قد يساوي حجم ما ذكرت .. وتعب ما أسلفت .. ومشقة ما وصفت .. ولذة ما تخيلت .. وعاقبة ما تعلمون وقد علمتم ..
إن الحياة كلها ساحة للجهاد .. إن حياتنا كلها هي ميدان القتال .. أليس كذلك .. أو ليس أعدائنا كثر ..
إبليس والدنيا ونفسي والهوى – ما حيلتي وكلهم أعدائي
تعالوا معي لنعيش بروح المجاهد ونفسه ، بل لنكن هو بشحمه ولحمه .. مع إطلالة كل فجرٍ نعمل كما يعمل المجاهد .. نغتسل .. نتحنط .. نخرج ونضع في أذهاننا أننا قد لا نعود ..
دعونا ننقل كل أمور حياتنا إلى ساحات الجهاد حتى مصطلحاتنا وكلماتنا ..
أردت أن أقوم بعمل دعوي قوبلت بالرفض .. هذا جبل اعترض طريقي كيف سأتجاوزه .. أقفز فوقه باستخدام طائرة أو أحاول صعوده وإن شق .. عدّتي فوق ظهري .. حمل ثقيل .. لكن سوف أصعد .. نعم بإذن الله سوف أصعد ..
أردت أن أقوم بعمل .. قوبلت بردة فعل معاكسة .. هذه رصاصة موجهة .. كيف أتقيها ؟!
إن كان بإمكاني لأضرب يدها قبل أن ترميني فعلت .. وإن لم لأخفض رأسي قليلاً.. كيف .. أتجاوز .. أصفح .. أبلعها ..
أردنا أن نشن حملة في الطائرات لتوزيع بعض المعونات الروحية الضرورية .. قوبلنا بالدبابات المضادة للطائرات .. رُفضت الفكرة .. جلسنا .. لا يأس .. لنحاول أن نتصدى للقنابل ونتجاوز ذلك .. إن لم نفعل ذلك لنخفف قليلاً من سرعة الطيران حتى نعرف من أين نُقذف .. إن لم يحصل ذلك لنغير اتجاه الطائرات بدل أن يكون باتجاه العاصمة فليكن إلى أهم المدن أو إحداها .. الغرض أن تتحقق الطائرات هدفها وتوصل حمولتها إلى من ينتظرها بل وفي أشد التعطش لها ..
منذ دخلنا هذه الجبهة والقذائف تنهال علينا والرصاصات موجهة إلينا .. والذي نفوس الخلائق بيده أن هذا لن يضعف هممنا بل على العكس من ذلك .. كلما زادت زدنا .. ثم إن مما يدفع هممنا اليقين بتلك المعاملة التي نحن نطبق بنودها .. معاملة مع رب كريم .. يُدخل في السهم الواحد الثلاثة إلى الجنة .. إن هذا يدفعنا أن نكون جميعاً جنود جبهة واحدة .. كلنا نهبُّ يداً واحدة .. ومن يتخلف عنا لن نقول له إلا ما علمنا عليه إلا خيرا ولكننا سنذكره بأن الله فضل المجاهدين على القاعدين درجة ..
لن نغتر يوماً بكثرة بإذن الله .. حين يُنادى يا خيل الله اركبي .. حي على الجهاد .. هي إلى العمل .. هيا إلى طلب العلم .. هيا إلى التناصح .. هيا إلى العمل الدعوي .. سنهب كلنا سنهب حتى لو كانت بيد إحدانا ما تتزود به .. ستأكل ثم تأكل أخرى ثم تنظر إليها وتقول : إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكلها .. وترمي بها ثم تمضي ..
أأضل أكتب أم فهمتم ما أعني .. إنها لذة العيش باحتساب .. لذة الجهاد والمجاهدة .. اللذة التي تقود إلى لذة أروع " والذين جاهدوا فينا لهدينهم سبلنا " ..
إلى أن تقول في نهاية قصتها :
ما زال قلمي يريد التدفق ليتحدث عن الجهاد .. ولكن حان الآن وقت العمل فلعلّي أعود إليكم يا من عشتم معي حقيقةً .. أعود مرة أخرى قريباً لأنقل لكم بعض ما يجري في الساحات أي في ساحات الوغى ..
انتهت قصتها .. وفقها الله تعالى
**************
قلت ( على لسان الشيخ الصقعبي ) بقي أن تعلموا أيها الأخوة والأخوات .. أن هذه الفتاة ليست بطالبة في كلية شرعية بل هي طالبة في كلية علمية .. بل تعيش مع ذلك في بيت يعج بالملاهي والمنكرات .. ولكن رؤيا فيها رؤى حسنة فقد رُؤيت كأنها على فرس وعليها ثياب بيض فعبّرها أحد الذين يجيدون تعبير الرؤى فقال : هذه يُكتب لها الشهادة بإذن الله وإن لم تطأ رجلها أرض الجهاد ..
لا أقول ذلك فتنة لصاحبة القصة .. بل أقول لها الأعمال بالخواتيم .. وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال " من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه "
ألا تعجبون أحبتي الكرام من فهم هذه الفتاة للجهاد .. في وقت غابت فيه عن كثير من الناس معاني الجهاد وحقيقة الجهاد ..
القصة الثانية ( خنساء هذا العصر )
وقد نشرت هذه القصة في مجلة حياة في العدد الثامن من شهر ذي الحجة لعام 1421 هـ
يقول صاحبه وهي قصة عجيبة .. عجيبة .. عجيبة
يقول فيها : سافرت إلى مدينة جدة في مهمة رسمية .. وفي الطريق فوجئت بحادث سيارة .. يبدو أنه وقع لتوه .. كنت أول من وصل إليه .. أوقفت سيارتي واندفعت مسرعاً إلى السيارة المصطدمة ..
تحسستها في حذر .. نظرت إلى داخلها .. حدّقتُ النظر .. خفقات قلبي تنبض بشدة .. ارتعشت يداي .. تسمَّرت قدماي .. خنقتني العبرة ..
ترقرقت عيناي بالدموع .. ثم أجهشت بالبكاء ..
منظر عجيب .. وصورة تبعث الشجن ..
كان قائد السيارة ملقاً على مقودها .. جثة هامدة .. وقد شبص بصره إلى السماء .. رافعاً سبابته .. وقد أفتر ثغره عن ابتسامة جميلة .. ووجهه تحيط به لحية كثيفة .. كأنه الشمس في ضحاها .. والبدر في سناه
العجيب " والكلام ما يزال لصاحب القصة " .. أن طفلته الصغيرة كانت ملقاة على ظهره .. محيطة بيديها على عنقه .. ولقد لفظت أنفاسها وودعت الحياة ..
لا إله إلا الله ..
لم أرى ميتة كمثل هذه الميتة .. طهر وسكينة ووقار .. صورته وقد أشرقت شمس الاستقامة على محياه .. منظر سبابته التي ماتت توحّد الله .. جمال ابتسامته التي فارق بها الحياة .. حلّقت بي بعيداً بعيداً ..
تفكرت في هذه الخاتمة الحسنة .. ازدحمت الأفكار في رأسي .. سؤال يتردد صداه في أعماقي .. يطرق بشدة .. كيف سيكون رحيلي !! .. على أي حال ستكون خاتمتي !! ..
يطرق بشدة .. يمزّق حجب الغفلة .. تنهمر دموع الخشية .. ويعلو صوت النحيب .. من رآني هناك ضن أني أعرف الرجل .. أو أن لي به قرابة ..
كنت أبكي بكاء الثكلى .. لم أكن أشعر بمن حولي !! ..
ازداد عجبي .. حين انساب صوتها يحمل برودة اليقين .. لامس سمعي وردَّني إلى شعوري ..
" يا أخي لا تبكي عليه إنه رجل صالح .. هيا هيا .. أخرجنا من هناك وجزاك الله خيرا "
إلتفتُ إليها فإذا امرأة تقبع في المقعدة الخلفية من السيارة .. تضم إلى صدرها طفلين صغيرين لم يُمسا بسوء .. ولم يصابا بأذى ..
كانت شامخة في حجابها شموخ الجبال .. هادئة في مصابها منذ أن حدث لهم الحدث !! ..
لا بكاء ولا صياح و لا عويل .. أخرجناهم جميعاً من السيارة .. من رآني ورآها ضن أني صاحب المصيبة دونها ..
قالت لنا وهي تتفقد حجابها وتستكمل حشمتها .. في ثباتٍ راضٍ بقضاء الله وقدره " لو سمحتم أحضروا زوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى .. وسارعوا في إجراءات الغسل والدفن .. واحملوني وطفليَّ إلى منزلنا جزاكم الله خير الجزاء " ..
بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل وطفلته إلى أقرب مستشفى .. ومن ثم إلى أقرب مقبرة بعد إخبار ذويهم ..
وأما هي فلقد عرضنا عليها أن تركب مع أحدنا إلى منزلها .. فردّت في حياء وثبات " لا والله .. لا أركب إلا في سيارة فيها نساء " .. ثم انزوت عنا جانباً .. وقد أمسكت بطفليها الصغيرين .. ريثما نجلب بغيتها .. وتتحقق أمنيتها ..
استجبنا لرغبتها .. وأكبرنا موقفها ..
مرَّ الوقت طويلاً .. ونحن ننتظر على تلك الحال العصيبة .. في تلك الأرض الخلاء .. وهي ثابتة ثبات الجبال .. ساعتان كاملتان .. حتى مرّت بنا سيارة فيها رجل وأسرته .. أوقفناهم .. أخبرناه خبر هذه المرأة .. وسألناه أن يحملها إلى منزلها .. فلم يمانع ..
عدت إلى سيارتي .. وأنا أعجبُ من هذا الثبات العظيم ..
ثبات الرجل على دينه واستقامته في آخر لحظات الحياة .. وأول طريق الآخرة ..
وثبات المرأة على حجابها وعفافها في أصعب المواقف .. وأحلك الظروف .. ثم صبرها صبر الجبال ..
إنه الإيمان .. إنه الإيمان ..
" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء "
- انتهى كلامه وفقه الله تعالى -
الله أكبر .. هل نفروا في هذه المرأة صبرها وثباتها .. أم نفروا فيها حشمتها وعفافها .. والله لقد جمعت هذه المرأة المجد من أطرافه ..
إنه موقف يعجز عنه أشداء الرجال .. ولكنه نور الإيمان واليقين ..
أي ثباتٍ .. وأي صبرٍ .. وأي يقين أعظم من هذا !!!
وإنني لأرجو أن يتحقق فيها قول الله تعالى " وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "
القصة الثالثة ( دحداحة هذه الأمة )
هي قصة لامرأة تملك منزلاً فسيحاً .. لكن قلبها قد تعلق بمنازل الآخرة وهذا هو ما يؤكده موقفها ..
فقد أرّقها ما تعانيه دار القرآن الكريم في حيّها .. لكون هذه الدار في مدرسة للبنات مما يتعذر معه استعمال كافة مراحل المدرسة .. فما كان منها إلا وأن تبرعت بمنزلها وقفاً على دار تحفيظ القرآن الكريم .. لقد كان هذا البيت يمثل لها مصدر رزق كانت تقوم بتأجيره والاستفادة من ثمنه للإنفاق على نفسها وعلى غيرها ..
والذي نفسي بيده لقد تصورت موقفها .. فتذكرت حينها أبا الدحداح في قصته المشهورة كما في حديث أنس الذي رواه الإمام أحمد أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لفلان نخلةُ وإني أقيم حائطي بها فأْمُرْه أن يعطيني تلك النخلة حتى أقيم حائطي بها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أعطه إياها بنخلة في الجنة ، فأبى ذلك الرجل ، قال : فأتاه أبو الدحداح رضي الله عنه فقال : بعني نخلتك بحائطي ، قال : ففعل ذلك الرجل ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ابتعت النخلة بحائطي فاجعلها له ( أي لذلك الرجل الذي يريد أن يقيم حائطه عليها ) فقد أعطيتُكَها يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة ! ، قال : فأتى امرأته فقال : يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني بعته بنخلة في الجنة ، فقالت " ربح البيع " أو كلمة تشبه هذه ..
والله لا نملك إلا أن نقول حسن ظنٍ بالله تعالى .. ربح البيع أيتها المرأة الصالحة نحسبك كذلك ولا نزكي على الله أحدا
ــ وهذه امرأة أخرى أرسلت إلي في يوم من الأيام ذهباً كثيرا لإيصاله إلى جهات خيرية لتتولى توزيعه على مستحقيه في مشارق الأرض ومغاربها .. وإذا هي قد أرفقت ورقة مع ذهبها تقول فيها : كغيري من الفتيات كنت أنتظر زوجاً يطرق بابنا وهذا هو ما حصل ثم تزوجت ولكن الله تعالى لم يقدر لي هذا الزواج أن يستمر والحمد لله على كل حال .. لا أملك والله من حطام الدنيا إلا هذا .. لا أدري ما الله ما صانع بي بعد ذلك .. ولا يقدر الله لعبده إلا خيرا ..
تأملت حال أخواتي المسلمات وما يتعرضن له من فتنة في الدين وهتك للأعراض وصدٍ عن سبيل الله فحمدت الله على ما أنا فيه من خير وعافية .. وهاهو ما أملكه بل هو كل شيء وأرجو الله تعالى أن يخلف علي خيرا ..
قلت أسأل الله تعالى أن يفرج كربتكِ وأن يجعل لكِ من كل ضيق مخرجا وأن يخلف عليكِ ما أنفقتِ ..
القصة الرابعة ( أسيرة طلب العلم )
تقول هذه الأخت بعد أن عنونت رسالتها بقولها " هكذا وجدت العلم "
تقول : به عرفت أن للحياة هدفاً أسمى ، يسعى الإنسان من أجله ، أيام وليالي تمر علي هي والله غنائم بالعلم ، إذا انقضى يوم منها لم أستفد فيه من فنونه هو ليس من أيامي .. ليس من عمري .. نعم لقد علمني تدراسه كيف هي الحياة وأنسها .. أنسها بالله تعالى .. وتدارس قال الله .. قال رسوله صلى الله عليه وسلم ..
أنس الحياة .. قال أحمد .. رجح ابن تيميه رحمه الله .. صوّب الشيخ ابن باز .. رجح الشيخ محمد رحمهم الله تعالى ..
أنس الحياة .. في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم ..
لذة الحياة وبهجتها .. حدثنا فلان عن فلان .. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا .. رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يفعل مثله ..
لذة الأوقات وبهجتها .. بعد صلاة الفجر وأنا أترنّم مراجعة لبعض المتون التي حفظتها .. فتارة مع منظومة السعدي في القواعد الفقهية :
الحمد لله العلي الأرفقِ – وجامع الأشياء والمفرّقِ
ثم أنتقل إلى رحيق المصطلح .. عبر منظومة البيقوني :
أبدأ بالحمد مصلياً على – محمد خير نبي أرسلا
فأقفز في ذهني إلى المنظومة الرحبية في الفرائض المرددة .. أول ما تستفتح المقال بذكر حمد ربنا تعالى ..
ثم أعرج على أصول الفقه .. فهمتي عالية .. حينها أراجع ما حفظت من متن وورقات .. يطير قلبي فرحاً مع قول المصنف : وهذه ورقات تشتمل على أصول من أصول الفقه .. وهكذا دواليك .. حتى طلوع الشمس .. لا إله إلا الله .. كيف يجد رجل أو شاب ممن هم من أهل الصلاح أنس الحياة بغيرها .. وقد هُيأت لهم الأسباب .. ولولا أن الله تعالى قال " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " لتمنيت أني أكون شاباً لأجالس أهل العلم وآنس بصحبتهم ..
لا أكتمكم سراً إذا قلت لكم أنه ينتابني في كثير من الأحيان أثناء مُدارستي لبعض الفنون كأن روحي ترفرف إلى السماء .. أي والله وبلا مبالغة .. ولا أدري لماذا .. حتى ربطت ذلك يوما بقوله صلى الله عليه وسلم " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع "
فقلت في نفسي هل أكون كأهل العلم .. هل أكون كأهل العلم وطلبته في ذلك .. لعل ذلك يكون ولو بمحبة العلم والرغبة في تحصيله وإن لم أبلغ مدهم ولا نصيبهم ..
حتى تقول هذه الأخت : والله إن لي ما يقارب خمسة أشهر أو تزيد وأنا أشتهي الخروج مع أهلي للنزهة الأسبوعية للمزرعة أو البر فأنا أحب تأمل الأشجار والثمار ومياه السواقي .. ولكن لأن ذلك اليوم يتوافق مع وقف درسي علمي أحضره لم أستطع ذلك بل لم أوثر على هذا الدرس شيئا .. ومع أن أهلي قد يخرجون مرة أخرى في اليوم الذي يليه لكن لا أستطيع الخروج لإنهاء بعض الأعمال حتى لا يؤثر تركها علي مراجعة العلم وكتابته في بقية الأسبوع ..
لقد كنت أقرأ قصة ذلك الرجل الذي يقول : بقيت سنين أشتري الهريسة ولا أقدر عليها لأن وقت بيعها في وقت سماع الدرس .. لقد كنت أقرأ هذه العبارة مجردة حتى تتحقق لي ذلك على أرض الواقع بمنة منه وفضله ..
بل والله لقد فقدت يوماً مجلدا من المجلدات وقد نفدت هذه النسخة من المكتبات .. فاغتممت لذلك غما كثيرا .. حتى أشفقت علي أخواتي .. لما أصابني فأخذن يبحثن معي عنه فلم أستفد في ذلك اليوم .. فلما وجدته بحمد الله سجدت لله تعالى مباشرة ..
بل تقول : إنني لا أستطيع مفارقة الكتب المجلدة .. لا في حضر ولا في سفر .. فكنا إذا أردنا سفراً سألني الأهل عن حقيبتي .. لأنها تحتاج إلى مكان أوسع .. فكل المتاع بعدها أهون كما يقول أهلي ذلك ..
وكنت بحمد الله تعالى لا أحمل فيها شي من حطام الدنيا إلا ما ندر ولكنها لكتبي التي لا أستطيع أن أفارقها ..
حتى تقول : أراد الأهل يوم في الخروج .. فدخل علي أخي بعد أن أحس أن في البيت أحداً من أفراد العائلة .. فمر على مكتبتي كالعادة .. فوجدني جالسة قد آنست الكتب وحشتي .. فقال : فلانة ألن تخرجي معنا كالعادة .. فقلت لا ..
فقال وهو يقلب نظره في مكتبتي يمنة ويسرة فقال لي فلانة .. قلت نعم .. قال : أنتِ تعيشين في عالم آخر .. فقلت أجل .. أجل .. أخي إن العلم أنيس في وحشة .. وصديق في الغربة .. وفوق ذلك فيه رضا الرحمن وهو طريق دخول الجنان ..
أجل .. سعادتي في مكتبتي ومع كتبي .. والله إن هذه السعادة تضيق إذا فارقتهما حتى أرجع إليها ..
لست والله مبالغة لكنها الحقيقة .. أكتب لكم ذلك لعل في قصتي تكون العظة والعبرة لمن ضيعوا أوقاتهم وأقبلوا على قراءة كل شي إلا قراءة كتب أهل العلم .. أسأل الله أن يحسن لي ولكم الخاتمة ..
انتهت قصتها وفقها الله ..
**********
يتبع
vvvvvvv
vvvvv
vvv
vv
v