قال لي ذات يوم : إني والله لم أزل ملازما لدواوين الشعراء أسرح نظري فيها أصعده وأصوبه حتى وقع في نفسي أني قادر على نظم الشعر وحسن تأليفه فجاهدت نفسي على معالجته طويلا فوالله ما وقعت على شيء يرضيني وأغلب ظني أنه لا يرضي الآخرين .
أقوله بادئ الأمر فأظن أني به جزت النابغة ونازعت أمراء الشعر في مكانتهم فإذا أرجعت فيه البصر كرتين تبين لي ما فيه من فطور وفتور وعلمت أني لا أجاوز فيه قدري وإن لم أستعن _بعد الله _بأهل البصر فيه غلب الشك عندي اليقين ولا محالة مقلع عنه إن لم يكن اليوم فغدا .
قلت لـه إن في مقالك الآنف من الأمور المهمة ما يحفزني لتأليف كتاب ضخم في هذا وشبهه ولكن لن ينفعك مع عجلتك وشدة لهفك على معرفة الإجابة أن تنتظر ظهور مثل هذا الكتاب كما لا تنفعني فكرة تأليفه دون العزيمة الصادقة في ذلك .
وإني مشير إليك بإشارات تغنيك ساعة لا تجديك الأماني واللبيب بالإشارة وأن ترد الماء بماء أكيس وربما يكفيك من هذا كله ما أحاط بالعنق .
الأمر الأول : أن طول ملازمة الشعر تورث الرغبة في نظمه وإبداعه وهذا أمر واقع في الجماء الغفير من محبي الشعر الذين يهتزون لجيده ويطربون له بل وربما داخل أحدهم أنه قادر على أن يأتي بأفضل مما جاء به فحول الشعراء ويغتلي هذا الإحساس في صدره حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
الأمر الثاني : أن نظم الشعر يحتاج إلى مجاهدة النفس وترويضها عليه بل والأخذ بزمامها إلى حياضه وهذا أمر يحتاج إلى إيضاح يجلي الحقيقة .
فأقول إن وقع مثل هذا عند حديثي العهد بالشعر فهذا أمر لا بأس به وهو من قبيل مغالبة التطبع فإن تكلف الطباع يكون فيه هذا وشبهه .
وأما أصحاب الملكات القوية المتمرسين على خوض غمار القوافي فإنه إن وقع عند أهل الصنعة منهم فإنه لا يكاد يقع عند المطبوعين .
ثم هو إما أن ينتج لنا صناعة متكلفة ولكنها قوية وجميلة قد أحكم صانعها نسجها وتزيينها فتقع في نفوس الناس موقع المطبوع غير المتكلف وإما أن يخلق فيها الضعف فينفر الناس منها .
الأمر الثالث : أن يكون الشاعر ناقد نفسه فما لا ترضاه نفسه لا يرضاه للآخرين وحاسبوا أنفسكم والإنسان على نفسه بصيرة .
والأمر لا يخلو في حقيقته من تفصيل فنقد الشعر يختلف عن بدعه ولكل أدواته فالشعراء الذين استقامت لهم قناة الشعر يملكون بذوقهم ما يملكه الناقد وزيادة ، وهؤلاء وحدهم من يملك سر الصناعتين وهم أقدر على ذلك من غيرهم ، ذلك أن منبع الشعر ومصبه الذوق والشعور لا القواعد .
وأما الذين لا زالوا يغالبون القول فيغلبهم تارة ويغلبونه أخرى فهم أحوج الناس إلى خبير بالصنعة مجرب لها عارف بخفاياها ومتى ما زهدوا في مراجعته ومدارسته لأمر أو لآخر فلا شك أن بضاعتهم تكسد وتجارتهم تبور لا يأخذها الناس منهم إلا كما يبلع أحدنا اللقمة غير سائغة .
ثم لا أجد لك هنا خيرا من مقولة أبي تمام : (( ... ولتكن شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه )) .
بقلم الأستاذ :الشاعر أحمد بن حسن أبوطالب القاضي...
المعهد العلمي بجدة..