جيزان.. هل نعرفها؟

بمناسبة الأمر الملكي بتحويل بيت الرفاعي في جزيرة فرسان إلى مكتبة ومتحف.

نجيب الزامل - 20/10/1427هـ


جيزان أو (جازان) منطقة ظلمناها كثيرا لأن معلوماتها تأتي إلينا مشوشة وقصية، وتحمل نمطا شخصيا مرت عليه أزمان فأخذه الناس كصورة تعكس أهل جيزان.. بدأنا أخيرا نعرف أن منطقة جيزان درة فكرية وحضارية وزراعية وبحرية وأن لها تاريخا عتيدا.

ولقد وقعت على تقرير استطلاع قّدمه سليم زبال وكان يرأس بعثات مجلة "العربي" الكويتية لما كانت "العربي" تتربع ملكة لا تنافس في دنيا الثقافة والفكر في العالم العربي، فترة كان رئيس تحريرها العالم المصري العبقري متعدد الاهتمامات أحمد زكي، مؤسسها وأول مَن رأس تحريرها. التقرير نـُشر في عام 1969م. وكان الاستطلاعُ أمامي وكأنه زيارة واقعية وطازجة لما كانت عليه جازان قبل ما يقارب العقود الأربعة، بعد أن عاشت عصرا زاهرا، ثم اندثر.. وهي الآن جديرة أن تعانق عصرا جديدا.

كانت جزر فرسان إلى منتصف القرن المنصرم موطنا لتجار اللؤلؤ، تماما مثل ما كانت مناطق الخليج العربي، وحين امتد الغوص عن اللؤلؤ على كل ساحل الخليج العربي، كان الغوص في البحر الأحمر للؤلؤ مركّزاً في جزائر فرسان، وكانت فرسان مزدهرة، ويكفي أن تعلم أنه كانت تخرج منها سنويا مائة من المراكب البحرية الكبيرة تمشيطا للبحر بحثا عن اللؤلؤ المكنون. وتجري قصة عن تاجر نجدي خسر تجارته وذهب إلى فرسان (ولا شك أن التاجر النجدي بحكم عقلية هجرة التجارة السائدة في نجد آنذاك لم يقصد فرسان إلا أنها كانت وعدا تجاريا) وهناك اشترى دانة ولؤلؤاً من امرأة من فرسان وذهب للهند وباعهم بأثمان مضاعفة لتزدهر تجارته. ويقول لي السيد عبدالله الطياري، ناقل القصة، إن أحفاد عائلة النجدي ما زالوا هناك. ونشر الاستطلاع في مجلة "العربي" صورة لرجل مسن أمامه مفرش وضعت عليه بعض اللآلئ، وعُرِّف بأنه السيد "أحمد ملعوص" وبأنه آخر الغواصين، وربما أن أولاده وأحفاده موجودون إما في الجزيرة وإما أنهم مع من خرجوا منها بحثا عن فرص وراء الساحل حتى كادت الجزيرة تقفر من سكانها. الغريب أن تعلم أن تربة الجزيرة غنية بالمعادن وهي أصلح بأضعاف كتربة للزراعة من تربة جيزان الزراعية الجيدة، إلا أن نقص المياه لم يسعف للزراعة أن تنمو بشكل ممتد وواسع. وقد نشرت صورة لمزارع اسمه "محمد داود زيلعي" يضم كمية من الذرة الصيفية.. ويذكر التقرير خبرا طريفا (من 37عاما) بأن له أولاداً أحدهم يدرس في إيطاليا واثنين في جدة وواحداً في جيزان، وآخر في الشرطة، والزيلعي عائلة معروفة، وخروج الأولاد يعطيك مثلا حقيقيا للهجرة الجماعية، خاصة من الشباب الطامحين لعالم أكبر وفرص أوفر من جزيرتهم.. بعضهم لم يعد لها أبدا.

إن بيت الرفاعي في فرسان يدل على تاريخ قريب تليد، والالتفات إليه الآن كان إنقاذا لثروة تاريخية في لحظة حرجة لأن أي تأخر للحفاظ عليه كان يعني اندثارا للبيت ومعه عهد من المجد التجاري والحضاري لتلك الجزر التي لا نعرف عنها إلا أنها جزر قاحلة. ولقد رأيت صورة في الاستطلاع لمنزل حي وقتها يملكه السيد أحمد المنور الرفاعي وفنون التصميم الداخلية فيه بجمال خلاب، وتجد تطريز الجدران والأبواب تحمل روح الفن الهندي بوضوح بازغ، فهناك العاج الموشى، وزخارف من خشب الغابات الهندية المعتق.. والرسم والتشكيل والنحت عميق جدا مما يدل على أن الرفاعي جلب عمالة فنية وخبيرة من الهند لهذا الغرض، وشاهد أكيد على تجارة مزدهرة مع الهند، وهنا يثور في عقلي سؤال عن سر الارتباط التجاري عند تجار فرسان بالهند البعيدة وليس الساحل الغربي القريب في القارة الإفريقية.

وعندما تذكر جازان فلا شك أن أبو عريش تطرأ على الأذهان.. قبل أربعين عاما وأكثر لن تتعرف أو تصدق أنك في قرية في جزيرة العرب فأبو عريش في ذاك الوقت وقبله كانت أكواخا مخروطية من العريش وكأنها قرية طرزانية منقولة من قلب غابات إفريقيا، ويقال إن صوفيا منقطعا أول مَن سكنها وبنى عريشا فسمي أبو عريش. وفي أبو عريش تلاحظ مدى عمق الاحتكاك مع قارة إفريقيا، وفرسان مع الهند. وربما هذا هو سبب تشكل العقلية الثقافية المكينة وازدهار الفنون في منطقة جازان حيث إن اتصالها مع العالم المحيط كان متنوعا ولصيقا في آن.

إن جازان وقت استطلاع بعثة "العربي" كانت صدمة لأعضاء البعثة، حيث كانت كما ذكر سليم زبال نصّا:" وصلنا لجيزان وليتنا ما وصلنا، صدمنا حرّها الزائد، ورطوبتها، ورائحتها، وذبابها، ومبانيها." أما سر صدمتهم فإنهم اطلعوا على ما كتبه الرحالة البولندي "لويس فارتيما" الذي قام برحلة بحرية لجازان في طلائع القرن السادس عشر حيث ذكر ميناء جازان الجميل وعدّ به خمسا وأربعين سفينة، وأدهشه أن في البلدة عنبا ودراقا وسفرجلا وتفاحا ورمانا وليمونا وبرتقالا وبوفرة وصف أنها هائلة. ثم أن جيزان كانت حاضرة نشطة وبحركة مفعمة لكونها إحدى عاصمتي الأدارسة وأقاموا حكما سياسيا روحيا من عام 1908م واستمر حكمهم حتى عام 1926م، لما وقعوا المعاهدة التاريخية مع الملك عبد العزيز. لو عاش سليم زبال حتى اليوم لرأى ميناء حديثا في جيزان ومعانقتها لحاضر معاصر ومستقبل واعد بإذن الله.

وأهل جيزان هم من أطيب الناس معشرا، وقرأت إجماعا في عدة كتب لرحالة عرب ونجديين وغربيين يصفون أهلها بحلاوة المعشر، ونضيف عليها ما نعرفه من ذكائهم المعرفي المتقد. جاء الوقت لننصف جازان وأهلها النابهين من أشياء علقت خطأ ولا بد أن تزول.

سليم زبال منذ أربعين عاما قال عنهم:" إنهم طيبون وذوو خلق رفيع وتمنينا لو عشنا بقية عمرنا معهم".

يجب أن نعرف بعضنا بشكل ٍأفضل كسعوديين، وأن يصل خير الثروة لكل طرف من أطراف البلاد ولا يتركز في حواضرها الكبرى. إن أي أمة مثل جسم الإنسان تدور به الدماء.. إن لم يصل الدم إلى الأطراف وقعت، فيقع الجسد كله!