وقف عند الباب. ركله برجله. منذ مدة ليست بالقصيرة وهو يكره استخدام المفتاح. بحث في جيبه عن عود ثقاب. اوقد شمعة. لايدري متى سمع (ان توقد شمعة خير من ان تلعن الظلام). احضر آلة حاسبة. أجرى العديد من العمليات الحسابية. وقفت الآلة. دمعتان تجري على خده. بجواره مجموعة من الكتب تناول احدها. فتحه واغلقه مرة أخرى. نظر الى الطاولة. مجموعة من الفواتير. "اللعنة". بصق، وهم بالخروج.
فجأة دخلت عليه متلفعة بالسواد. حيته برأسها. خلعت عباءتها وجلست على كرسي امامه ترتدي (شورتاً) من الجينز وقميصاً ازرق. لمح بياض فخذيها على ضوء الشمعة. اشعلت سيجارة وأخذت نفساً عميقاً. نظرت الى اعلى. "لماذا لا تهاجر؟". قالتها وعيناها تنظران الى السقف.
ضوضاء بالخارج. جموع تتدافع الى البحر. ظلام حالك. نظر من النافذة. بعضهم يحمل شموعاً. تلبدت السماء. دوى صوت الرعد. امواج عاتية. هبت عاصفة. انهمر المطر بغزارة. اغمض عينيه في انتظار النهار.
خرج متأبطاً ملفاً اخضر. كالعادة في الطريق لمح مجموعة من الناس يحملون ملفاتهم. أبتسم. شعر بالجوع. ليس امامه أي خيار سوى (عبده) الفوال. دلف الى داخل المطعم. تناول افطاره رغيفاً وصحناً من الفول. هل ورث الفقر؟ افطاره لا يختلف عن افطار سكان قريته. كان في القرية يتناول رغيفا مخلوطاً بالسمن. حدثه ابوه ان جده كان يتناول رغيفاً (حافاً) لانهم في زمن القحط لا يجدون السمن. "مسكين جدي توفي قبل ان يولد". ربما بعد قرن من الان يعرف سكان قريته (لافاش كيري). وقف على قارعة الطريق اشار بيده للحافلة. توقفت صعد وجلس على مقعده. مجموعة من الغرباء. تفرس في وجوههم فعرف الأسى فيها. نظر الى وجهه في المرآة الجانبية. لا يختلف عنهم. قال الذي يجلس بجواره يحدث صديقه: "ما أنتم ياجماعة (ناس الطيب)؟ ما صدقتوا؟ ( مثل الجيعان اللي ما يبرد اللقمة)". "اقف.. اقف..". قالها الآخر باسماً وأردف "مأنتم ياجماعة ناس مجذوب. كانت اللقمة باردة عندكم بس كنتم (مكبرين العمة وكاشفين اطيازكم)".
تداخلت الأصوات. تعددت اللغات. بنازير. آغا خان. عمران. لايفهم ما يقولون ولكن يعرف الاسماء. صاح احدهم "نواز خوش آدمي". تطلع فيهم وقال "كلهم كذلك". توقفت الحافلة في وسط المدينة. نزل بخطى ثقيلة. المحلات تعج بالبشر الكل مشغول. عيناه الى الأعلى يحملق في اسماء المؤسسات والمحلات التجارية. لفت نظره لوحة مكتوب عليها (لا نجري). لايعرف معناها. نظر الى واجهة المحل الزجاجية. مجموعة من الملابس الداخلية النسائية معروضة باغراء شديد. وقف مشدوهاً. تذكّر الحلبي (خط البلدة) ابو تكة المليء بالعقد. تذكر قول أخوه الأكبر بأنه في ليلة زواجه قضى معظم الليل محاولاً حل التكة، وأنه اخيراً استخدم سكيناً حاداً لفكها. (ياحلال العقد).....
دخل الى احد المكاتب. ناول موظف الاستقبال ملفه. اعطاه الموظف ورقة الشروط. قرأها: شهادة جامعية، خبرة عشر سنوات، اجادة اللغة الانجليزية والفرنسية، اقامة قابلة للتحويل. نظر الى موظف الاستقبال وقال له انه يجيد لغة فولتا العليا. "لك حل عني" قالها موظف الاستقبال وهو يعيد الملف اليه. "ما عنا عمل الك انت وامسالك". ود لو صفعه. تذكر ان (عنز الشيوخ نطاحة).
بدأت معاناته بعد حصوله على الثانوية. لعن النسبة والتناسب والواسطة. تحسس بيده على ظهره وهو يمشي. بعد محاولات عديدة وجد عملا بسيطاً (حارس امن). ضحك من الداخل. لايعرف كيف يحرس الامن. تسكع في شوارع المدينة لايعرف احداً . الراتب الذي حددوه له متواضع. انه بحاجة الى اربعين عاماً لكي يستطيع بناء منزلاً بسيطاً في أطراف المدينة لا تصله الخدمات. عندها سيتزوج. سرت قشعريرة في جسده. سيكون عمره قد تخطى الستين. لن يكفيه دخله لشراء علبة (فياغرا).
تذكر صوتها. لماذا لا تهاجر؟ لماذا الآن؟. قهقه. ضحك. صرخ. ثم جرى مسرعاً في الشارع.
جدة
فبراير 1997