الرجولة في أدبيات حمزة شحاته >>>>>>>> للأستاذ. د. محمد بن مريسي الحـــارثي
إن التقوى من حيث مستوى تمثلها، والعمل على تعميقها في النفس الإنسانية قولاً وعملاً هي مناط المفاضلة، وهنا بالإمكان النظر في مستوى التقوى من جهة القوة والضعف. فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.
وعلى هذا فالقوة متعلق، وليست أساساً، وأصلاً، كما هو الحال في وظيفة التقوى الأصل والأساس، بوصف التقوى بؤرة المفاضلة بين الناس المؤمنين. والتقوى تحتاج إلى قوة تتقوى بها أمام بعض الماديات التي تهدف إلى زعزعة التقوى وإضعافها، والإنحراف بها عن مهمتها الفضائية.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم
من هنا توظف القوة على مستوى التفكير الإنساني للتحصن وراءها بما يحمل الإنسان من قيم روحية، ومادية. وقد كان البحث عن القوة في أبعادها المادية والروحية هاجساً مهيمناً على مكونات شحاته وقد وجدها في الرجل، ولم يجدها في المرأة.
وكان الجو العائلي الخاص الذي عاشه حمزة شحاته - كما سبقت الإشارة - يغلب عليه المجتمع النسائي. وهو الذي كان يتعامل معه في حياته اليومية، ومن المسلم به أن الغالب على صفات من يعيش بين النساء ان يتحلى بمركوزاتهن الطبعية، وان يكون إلى التلطف معهن أقرب من حيث الموافقة على طريقة عيشهن معيشة، وتعليماً، وفكراً، ومن ثم تلمس تحقيق ما يحتجن إليه على مستوى التوجيه والتربية، وتشكيل كيانهن بما يرغبن فيه وبما لا يخرج على رغبات الأب المربي. وبالتالي تتراكم خبرة الرجل المتفقة في أغلبها مع خبرة المرأة. هذه مخرجات تربوية ومعيشية ملازمة للمرأة.
وتجد من يعيش مثل هذه الحياة في محيط أنثوي يدافع في الأغلب الأعم عن الخلق الأنثوي، ويبحث للمرأة عن مواصفات أخلاقية وحقوقية؛ لتقريب الفجوة والمسافة بين الرجل والمرأة، وبخاصة إذا نظر إلى تلك العلاقة بينهما بغير منظور الحقيقة الكونية المجردة وليس بمنظور التحيز إلى رغبات الأنثى، أو رغباته هو لاعطائها أكثر من حقوقها، وربما دفعه ذلك التحيز إلى تجاوز المعقول، والممكن، والشرعي في علاقة الرجل بالأنثى.
ولقد كان انحياز حمزة شحاته إلى الرجولة من الوضوح بمكان، وبخاصة في محاضرته «الرجولة عماد الخلق الفاضل.» بوصف المرأة في نظره مصدر شقاء للرجل. مع أن المرأة لم تكن سبباً في شقاء الرجل، ولا الرجل سبباً في شقاء المرأة في وضوح رؤية العلاقة بينهما، إذا قامت على الحكمة من الخلق، وان الشقاء الذي يعتري أياً منهما مصدره عدوّهما «الشيطان» الذي بدأ صراع الإنسان معه منذ أن أوقع آدم وزوجته في الإثم. ولم يكن أحدهما سبباً في إيقاع الآخر في ذلك، فتأسست العداوة منذ تلك اللحظة البدائية للخلق بين آدم وذريته من جهة، والشيطان الذي فسق عن أمر ربه من جهة أخرى.
وقد وصف حمزة شحاته نفسه في مستهل محاضرته التي رصد فيها ملامح الرجولة. بأنه كاتب، وليس محاضراً؛ للعمق الفكري عند الكاتب، والكلام الإنشائي عند المحاضر في نظر شحاته. ويبدو أنه كان يكتب محاضرته هذه، وكتاب الجمهورية لأفلاطون تحت ناظريه تمهيداً لتشكيل المجتمع الفاضل من خلال تربية الرجل الفاضل.
وأول إشارة له عن أسس تلك الملامح التي لمسها في شخصه قبل أن يبحث عنها في مكونات الرجولة. مبدأ التجريد والتعرية والمجازفة. متخذاً الشك طريقاً إلى اليقين. والحرية منطلق كل فعل يبحث عن الحقيقة الكونية.
وهو في هذا الموقف الباحث عن القوة المهيئة لتحقيق الفضائل، قد وصف النفوس والأذواق بالقوة، والنفوس إنما توصف بالإكبار في هذا الشأن. أما الأذواق فتوصف بالرقة ومتعلقاتها، أو ما يضادها. والفضائل في نظره أوهام عقلية، أو نفسية غايتها إيجاد مثل عليا للمجموع. وهي صفات وأعمال. والرذائل كذلك. والأخلاق هي آثار الفضائل القائمة في النفوس.
والرجولة ليست هي الفارق الطبيعي بين جنسين، ولكنها مجموعة من الصفات الرائعة في الرجل الرائع. ومنبع الرجولة في طور الحياة الأولى القوة الجسدية الصفة الملازمة للرجل والأنثى في ذلك حد أقل لا تتعداه. وهذا الطور ما قبل القرن العشرين في نظر المحاضر.
ومن مقومات الرجولة حب الاجتماع، وحب الوطن. وأساس ذلك الضرورة التي تدفع إلى كل فضيلة. ومن تلك المقومات، الغلبة. والمشاركة الفعالة في صنع الحياة. لكن القوة الجسدية قد تتحول من قوة مطلقة إلى قوة تبحث عن ضمان الرغائب، عندما تعضدها الثروة والنفوذ، بوصفهما من أسباب انحراف الفعل الحسن إلى غير الحسن، وبالتالي إخفاء الممارسات الشاذة، وإشاعة الكذب، واندحار الصدق. وهذا كله مؤشر على أن حظ الفضائل آخذ في الاندحار كذلك.
ومن ملامح الرجولة عند شحاته. النجدة، والكرم، والعفة، والشجاعة، والأمانة والقناعة، والتواضع. وهاتان الأخيرتان من مؤكدات الذات. والاعتراف بالنقائص فضيلة وكذلك الثقة بالنفس، والصبر، والثبات على المبدأ لكن شحاته يجعل العرف مقياساً صحيحاً للفضائل، والرذائل. ثم يستدرك على ما ذهب إليه في مقياس العرف. ويشير بعد ذلك إلى ان الفضائل ما نزل بها القرآن الكريم. مضيفاً إلى ما أشرنا إليه بعض الفضائل من مثل: الحياء، والرحمة، والعدالة، وهذه الثلاث جماع الفضائل في نظر شحاته.
والحياء قوام هذه الفضائل. وهو عند المرأة هزيمة للشيطان. ومتى تحققت القوة في صفات الفضائل عند الرجل، فإنه يبقى رمزاً قيادياً في ضعفه بعد زوال القوة، تبعاً لما حققته قوته الماضية.
أما الأنثى فإنها لا تمتلك القوة إلا عن طريق الرجل. وقد ضرب شحاته مثلاِ لذلك. عندما تفقد المرأة ابنها القوي فإنها تضعف أمام هذا الحدث، مما يستدعي العطف عليها وتخفيف لوعتها، وإعانتها على قطع الرحلة الباقية لها في الحياة. وهذا يعد من الواجب الذي يبعثه شعور الرقة، والعطف والارتياح إلى الاحسان. ومن هنا تقع المرأة تحت قوة عطف الرجل. وهذا التعميم في تحقق القوة عند الرجل، وانحلالها عند المرأة لا يستقر أمام قوة المرأة الروحية في مواجهة مشكلات الحياة.
إن مفهوم الرجولة عند حمزة شحاته يتداخل مع مفهوم القوة عندما يتحدث عنهما بوصفهما شيئاً واحداً، متخذاً الرجولة القوة متكأ لوظيفة الرجولة الأساس.
والقوة في مقومات الرجولة، تكون طبعاً غريزياً، وطبعاً مكتسباً عند شحاته. وقد أكد على أهمية تشكيل الرجولة المكتسب منذ الطفولة في تربية الطفل. وأشار إلى أهمية المكونات الأولية للطفل. وهي مكونات اجتماعية، وتعليمية، وفق تصور مرجعي يبدأ من الأسرة، فالمدرسة، ثم المجتمع. غير أن اكتساب القوة للقوة لا يرقى إلى مستوى اكتساب القوة للحياة المدنية. التي تقوم فيها العلاقات بين الناس على الأخلاق والفضائل، وليس على التسلط والهيمنة، ولو على المستوى النظري عند شحاته.
وتجد تساوق الرؤية الرجولية في أدبيات حمزة شحاته وتسامتها بين نثره وشعره وهذا نتيجة لمزاجه القار إلى حد ما، وشغفه بالمذهب الواقعي إبان إشاعة هذا المذهب في الأدب العربي الحديث، وتعلق ذلك كله بنظراته الاصلاحية الفضائلية.
وكان قبل الواقعية قد استهوته الاتباعية الجديدة كغيره من شعراء الحجاز، وبإمكانك تقسيم شعر حمزة شحاته قسمين: القسم الوجداني الخالص ذي التوترات النفسية المثيرة إيحائياً، والقسم المعرفي الذهني الذي قارب فيه شحاته بين التاريخ وقضايا الواقع والفن. والقصائد الطوال في هذا القسم أكثر منها في القسم الأول. وقد أشار الأستاذ عزيز ضياء في حديثه عن حمزة في مقدمة الديوان إلى أن أجود شعره وأحسنه ما أبدعه في بواكير حياته الشعرية، ولعله كان يشير إلى الأغلب الأعم من شعر القسم الأول، وبخاصة شعر الغزل عند شحاته.
وقد احتلت صورة المرأة حيزاً كبيراً من إبداع حمزة شحاته الشعري. وبلغت قصائد الغزل الخالص في ديوانه سبعاً وخمسين قصيدة. وهو في غزله لم يخرج على تقاليد الشعر الغزلي العربي التراثي وما طرأ عليه عند الرومانسيين المحدثين فيما يتعلق بهرب الشاعر من واقعه العشقي إلى آفاق التعويض النفسي عما كان قد استمتع به من صفاء الحب والبحث في عالم المرأة والطبيعة، وتصوير المشاعر فيما فوق الوصف.
فالمحبوبة عند شحاته تعطيه من الصفاء أقل القليل، وتتمنع عن العطاء في أغلب مواقفها العشقية من الشاعر إدلالاً بما تمتلك من مقومات الإغراء حسناً ودلاً. لكن عوامل الجذب هذه سرعان ما تتحول إلى أسباب شقاء في قربها وبعدها، عندما يكون القرب والبعد حالة جليدية وصوراً عديدة من صور المشاعر الباثة غير حالة من حالات الأدواء المميتة لمكامن الشوق.
صحيح ان بعض الدواء يكمن في الأدواء فالعيش بحرقة التمنع تستمر معه جذوة الحب حية تتقد قد يكون إطفاؤها مما يقلل من استمرار شعلة العشق في وجهها الكاشف مسالك العشاق.
انظر إلى صفو الهوى، وكدره عند شحاته في قصيدته «سطو الحسن» كيف تقطعت حبال الوصل بين العاشقين. فقد كان الصفو سابقاً على الكدر. فهناك صفو وطيب وفاق، وفجأة مضى كل في طريق متفرق، تنكرت فيه المعشوقة، حتى لكأن شيئاً لم يكن قد جمع بينهما.
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق
عز حتى السلام عند التلاقي
ولم يذكر الشاعر شيئاً عن مرحلة الصفو سوى هذه اللقطة السريعة في صدر هذا البيت.
اختزل الشاعر لحظات الصفو في هذه اللمحة التي أسقطت من التجربة «ما قبل» في سكوتها عنه وكشف منها «ما بعد» وكله متعلق بمعاناة الحرمان. في تجربة شحاته العشقية، وهذا ليس من باب انتقاص المرأة من برود عواطفها، وتقلب مزاجها بقدر ما هو تقليد لقيم الشعر الغزلي عند العرب الذي تكون المعشوقة فيه مطلوبة يتهالك العاشق في البحث عن طرائق الوصول إليها. وهي تتمنع ليس لإذلاله تحقيقاً للإذلال، وإنما لزيادة إيقاد نار الحب في نفسه تمهيداً للوصول إلى قمة الاتحاد العشقي الذي يستعصي على الانفصال، فتذوب الذات في الذات مشكلة ذاتاً واحدة. تحس بقلب واحد، وترى بعين واحدة. ويحل منطق الائتلاف محل منطق الاختلاف. وقد تكرر مثل هذا المشهد المكتنز بمعاناة الحرمان عند حمزة شحاته في شعر الغزل عنده. وقد أخذنا من قصيدة «سطوة الحسن» وهي القصيدة الأولى من الديوان نموذجاً لمعاناته المتوترة من المرأة التي لم تصهرها نار الهوى. وكأن المصهر العشقي كان المعيار الحقيقي لمعرفة الجوهر من المعدن الرجولي.
وهذا يصب في معرفة مدى تحمل الرجل لكل أنواع أدواء الصد، والهجران، والشقاء.
وقد ربط اهمال واجبه عند محبوبته بالسؤال عن الذنب الذي اقترفه واجب الأخلاق. وللأخلاق هنا امتدادها بوضعها لأزمة رجولية أكثر منها لأزمة انثوية عند حمزة، لذلك يتحصن حمزة خلف كرامته الرجولية فلا يداري من أخل بميثاقها وشرفها، اعتداداً بأنه الأوفر حظاً في انتصاره على رغباته الجنسية، وان مقومات الرجولة هي التي تتعرض دائماً لاختبار قدرتها على قوة المواجهة. ومن هنا يصبح الاحساس بملامح الرجولة الهاجس المهيمن على تجارب حمزة شحاتة الشعرية، الذي كان يرى الوفاء بالوصال في الحب ضرباً من الواجب، ومعنى من معاني الكرامة من جانب الرجل، وان ذلك من الأخلاق التي لم تتشكل منها أخلاق المرأة في علاقتها بالرجل. وهذا الذي حدا بحمزة شحاتة ان يشقى في الحب بعقله، وليس بوجدانه، ونبض مشاعره هذا ما تجده في قصيدته (لم أهواك؟).
ومجال الحياة أحفل بالحس
ن ولكنه شقاء العقول
.....
افأنت الجاني علي والا
هو فكري الظامي وحسي العطوف
إن توجس شحاتة من مصداقية العواطف من الطرف الآخر عمق في ذاته الاعتداد بالفهم الثاقب الذي رآه ماثلاً في العقل الرجولي، ومن ثم الحكم على الأشياء بميزان العقل في كل ماله علاقة بالحس، والذهن. فالعبرة ليست في العبارة الدالة. العبرة في الفعل العملي المفيد.
لا تقولي أهواك ان هوى الأنثى خداع معبر عن مناها
....
تعس العقل انه خانق الفرحة في النفس يتقي عقباها
فهو للحس والمشاعر قيد شل أحلامها وعاق رؤاها
.....
تعس العقل هائماً بالنهايات يراها حس النفوس سفاها
إن الدعاء هنا ليس دعاء طلب العقوبة للعقل. انه دعاء الاعجاب من هيمنة العقل على توجيه الفعل إلى حسن العقبي والخواتيم. وان تعميق الرؤية التربوية عند شحاتة في بحثه المضني عن الرجولة القوية قد دفعه إليه احساسه بأن الرذائل امتطت غوارب الفضائل. كما هي إشارته في محاضرته. وهذه النظرة السوداوية لحالات الأخلاق في مجتمعه طبعت أدبياته باعتداد التفوق. فأخذ يثير الإشادة بالأخلاق الفاضلة، وهدم أضدادها. وذلك في شعره الهجائي لأستاذه محمد حسن عواد.
ففي قصيدة (أبولون) أخذ شحاتة يهجو العواد برمزه الاغريقي، وكأن هدم قيمة الرمز هو هدم لقيمة العوّاد؛ فاتخذ الهدم منحى عقائدياً. والعواد لم يقترف ذنب الآلهة الإغريقية؛ لكن التوظيف الهجائي اتجه الهجاء فيه إلى الإله وليس إلى العواد. وأبولون لا يمتلك من القيم القيادية التصورية في المنظور الشحاتي الخلقي إلاّ ما يضادها. فهو إله المجانين. وحقير (لست للفاضل الحر كفاء) فأنت ضعف وحطة واستفال. وكان شحاتة قد جذبته رموز الاغريق في قصيدته (الليل والشاعر). فتغنى بذوات الفن والحب منها من مثل (أوتيرب) رمز الموسيقى، و(اراتوس) رمز الشعر، وغيرهما.
إن الصفات المقنعة التي أسقطها حمزة على العوّاد. كلها أضداد لصفات الرجولة التي بثها في محاضرة (الرجولة عماد الخلق الفاضل). وتردد صداها في شعره فمهجوه حاقد ذليل، لا يحمي ذماراً ولا يرد اعتداء. وهو وسط بين الرجولة والأنوثة. انه خنثى والفحول والهاجي له من صفات القوة ما أرغم خصومه، وأسقاهم كؤوس الهوان، حتى اكتسب الفخار. وانضم إلى كرام الناس يتصف خلقه بين الناس بالصدق لا يعرف الكذب.
وهكذا يأخذ الشاعر في رصد صفات الرجولة وأضدادها (الإطراء والتهكم الشجعان والجبناء، الأسوياء والجارمين).
ومن صفات الرجولة التي بثها شحاتة في قصيدته الملحمة الأولى من ملاحمه. القوة والرحمة والعفو والكرم والخلق السمح.
وفي قصيدة (الساحر العظيم). تتجلى شخصية العظماء بالتفرد والاباء لا تهاب ركوب الوعر والأخطار.
وسبيل القوي ان يفرع الصعب ولو كانت اللهازم مصعداً. وفي قصيدته (ملحمة) وهي الملحمة الثانية من ديوانه. يؤكد على أهمية القوة في صراع الحياة.
إن هذا الاعتداد الشحاتي بشخصيته العقلانية، وشعوره بأن ما ينتجه من معرفة أدبية هو من التفوق بمكان، وان مواقفه من مشكلات الحياة تعد مواقف العارف الخبير الذي لا يعير مواقف الآخرين كبير اهتمام. يدفع الناظر في أدبياته إلى توقع وجود عارض صحي بأن الرجل ربما تعرّض لما يشبه ما يسمونه في علم الطب. الحس المتوازن. وهذا غالباً ما يتعرض له أصحاب المدركات القوية المفرطة في حساسية الادراك. فيحكم على الأشياء من خلال ذلك الادراك المتزامن المفرط بشيء من الفهم السريع. فيقتنع بسلامة نتائج مدركاته الدقيقة والسريعة. وينظر إلى حقائق الأشياء بهذا المنظور الذهني.
فيحقق قناعاته إلى درجة التسليم با، وعدم التنازل عنها في أي مستوى من مستوياتها جيدة أو حسنة أومقبولة إلى الحد الذي لا ينزل بعده إلى ما بعد المقبول.
والحس المتزامن لا يكون ضد العقل كما هو الادراك الحسي. بل يكون حساً ذهنياً يدفع صاحبه إلى الثبات فيما يؤمن به من مواقف تجاه الأشياء، ولو لم يشاركه أحد في ذلك.
Synes Thsie
وتجد ان عارض الحس المتزامن يتسم بالسرعة للوصول إلى الحقيقة، لكنه لا يتسم دائماً بصحة النتائج مما يدفع هذا العارض إلى ان يرى صاحبه الأشياء على غير حقيقتها. إذا كان التسليم المستمر مصاحباً لصاحب ذلك الحس.
ولعلك تبحث عن شيء من مؤشرات ذلك الحس المتزامن عند حمزة شحاتة في محاضرته الشهيرة (الرجولة عماد الخلق الفاضل). فقد أعدها الرجل في أكثر من مائة صفحة، وامتداد القاؤها إلى أكثر من أربع ساعات. وسماها حديثاً، وليس محاضرة وكأنه يريد ان يحقق تماسك محاضرته دون التفريط في شيء منها، ولو كان ذلك على حساب جهده أولاً، ومجاهدة السامعين أذهانهم ونفسياتهم لاستقبال هذا الكلام الذي يحتاج إلى قراءة طويلة ومتأنية. وكأن المحاضر كان يراهن على سلامة حسه في اعداد هذا الكم من المعلومات في محاضرته. والاعتداد بتلك السلامة للحس إلى درجة الزام المستمعين بسماع الكلام كاملاً؛ نظراً لما فيه من الحقيقة المعرفية، ولا غير الحقيقة التي كرر فيها المحاضر كثيراً من أفكاره وخواطره ومخزونه التاريخي والاجتماعي.
وان التسليم المطلق بما جاء في محاضرته يعد المنهج الأقوم لتحقيق ملامح الرجولة في لغة مشوبة بالاعتداد المفرط الذي لا يتداخل معه أي اعتداد يناقش هذه القضية وفق خيارات معرفية قد لا تتفق مع أفكار المحاضر. وان أفكاره لا تقبل الانتقاص منها.
ولعلك تجد صورة أخرى للحس المتزامن في أدبيات حمزة شحاتة. يتمثل ذلك في قناعاته في ان المرأة واحدة من ثنتين مغرية في انحلال ومتمنعة في تنكر للعلاقة بين الرجل والمرأة على أي وجه كان حلال أو حرام. وهذا الحس لم يخرج عن تقاليد الشعر العربي إلاّ في درجة الاحساس المفرط به، فقد أحدث الحس المتزامن في عقل شحاتة حساسية سلبية تجاه المرأة التي لم يقم لها وزناً. ومن علامات الحس المتزامن عند شحاتة ولعه بالمكابدة النفسية والفكرية بوصفهما صفتين قارتين عنده وما أحاط به نفسه من عزلة اختيارية. واستقرار المزاج عنده.
ولعلك تجد احساس شحاتة بشيء من عوارض الحس المتزامن في قوله: (لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة والفكر خالصة إلاّ من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها وهؤلاء يدعون بالمجانين تارة وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة). فإذا ما داخل العقلاني الاحساس بأنه فوق قيود الحقائق وقواليها، فإنه لن يكون بعيداً عن عارض الحس المتزامن أو بعض متعلقاته.
أضف إلى ذلك كله ان شحاتة رجل موكول بالتجريد ولا شيء غير التجريد يحتكم به وإليه. وهذا المعطى الذهني البحت الذي أشار إلى افتنانه به في أول محاضرته كان بإمكانه ان يزن معرفة شحاتة بميزان الفهم في حدود مدركات العقل للأشياء، لكنه تجاوز المدرك المنضبط بضوابط الوعي المتزن إلى حافة غير المدرك حين هيأ له عارض الحس المتزامن صور الحقائق على غير الحقيقة الكونية.
--------------------------------------------------------------------------------