حديقة الغروب
يبدو أن الشاعر غازي القصيبي قد نعى نفسه إلى نفسه وإلى زوجه وبنته وبلده ويتضح ذلك من هذه القصيدة المؤثرة الشجية التي أحسن حبكها مؤخرا ونشرتها له صحيفة الجزيرة في شهر ربيع الثاني من عام 1426 هــ ، ويظهر فيها عمره الحقيقي الذي ذكره بكل صدق ...وفي آخرها يرجو رحمة ربه
خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟
أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت
إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟
أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا
يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ
سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا
قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري
***
أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى
عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
أحببتني.. وشبابي في فتوّتهِ
وما تغيّرتِ.. والأوجاعُ سُمّاري
منحتني من كنوز الحُبّ.. أَنفَسها
وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري
ماذا أقولُ؟ وددتُ البحرَ قافيتي
والغيم محبرتي.. والأفقَ أشعاري
إنْ ساءلوكِ فقولي: كان يعشقني
بكلِّ ما فيهِ من عُنفٍ.. وإصرار
وكان يأوي إلى قلبي.. ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعهِ داري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكنْ بَطَلاً
لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ
***
وأنتِ!.. يا بنت فجرٍ في تنفّسه
ما في الأنوثة.. من سحرٍ وأسرارِ
ماذا تريدين مني؟! إنَّني شَبَحٌ
يهيمُ ما بين أغلالٍ.. وأسوارِ
هذي حديقة عمري في الغروب.. كما
رأيتِ... مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
الطيرُ هَاجَرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ
والوردُ أطرقَ يبكي عهد آذارِ
لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي
فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
وكان يمزجُ أطواراً بأطوارِ
***
ويا بلاداً نذرت العمر.. زَهرتَه
لعزّها!... دُمتِ!... إني حان إبحاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئكِ المسحورِ.. أسماري
إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي
ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بَطَلاً
وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري
***
يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه
وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري
وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به
علي.. ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي
أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟
وقد رد الشاعر عبد الله بن إدريس - في صحيفة الجزيرة - على القصيدة بقصيدة أخرى يظهر حزنه على غازي في حديقته ، ويخبره بأنه أكبر منه عمرا فماذا يقول هو عن عمره يا ترى :
تسع وسبعون.. يا شمعات مسياري
أمضيتها بين إعسار وإيسارِ
تسع وسبعون.. يا لذَّات أحرفها
أمضيتها بين إقبال وإدبارِ
أمضيتها بين أشجان مؤرقةٍ
وبين عزم شديد البأس موَّارِ
تسع وسبعون ما أحفى ركائبها
طولُ السرى.. أو تدانت دون أوطارِي
أمضيتها بين تبريح ومغتَربٍ
من دون رفد، ولا جارٍ لتجارِ
حتى قضيت لبانات سعيتُ لها
أستشرفُ النور في آفاق أدهارِي
أستشرفُ الفجر ما ذرَّت نسائمه
مستمطراً نفحات الأكرم البارِي
تسع وسبعون.. يا غازي مزمجرة
ضد الخنوع.. وضد الذل والعارِ
وما سمحتُ لها يوماً تساءلني
(أما سئمتَ ارتحالاً أيها السارِي)؟
كلا وربك ما أصْغَتْ بهمستها
بمسمعي.. أو تهاوت دون إصرارِي
وما شَنأْتُ لها عُسراً وعجرفةً
ولا رقصتُ لها يوماً بمزمارِي
وما اغتررتُ بها خضراء مزهرة
فكل أيامها.. أيام تسيارِ
سموت بالنفس أن تُمنى بعزتها
لمطمع.. يرتضي إعنات جبارِ
ولا العداوات صدتني حقارتها
عما أروم.. ولا أطوي على ثارِ
وما مللتُ حياة طبعها غِيَرٌ
بلى.. نسجت لها نثري وأشعارِي
**
يا شاعراً برهيف الحس أمتعنا
أطِلْ مكوثك.. لا ترحل عن الدارِ
إني أعزك.. لا دنيا معطرة
لكن تقارب أطباع وأفكارِ
يا عازف اللحن كم أوسعتنا حزناً
لما تقول: (بأني حان إبحارِي)
فهل مللتَ؟ هَنَاك اليوم تصغرني
(بربع) عمرك.. يا للبائع الشارِي؟!
مرحى (الثمانين) هل في العمر من سعةٍ
تحلو الحياة بها في ختم تسيارِي؟
**
إني تطاولتُ للأسمى وكنت له
أسعى.. وما ضرني ما شاب مشوارِي
وقد نشر في صحيفة الجزيرة هذه القصيدة الجميلة بتاريخ 4/ 5/ 1426
رثاء
شعر: خالد بن أحمد الرفاعي
إلى الدكتور غازي القصيبي وقد نعى إلينا نفسه
كَانت رَبِيْعاَ، فعَادَت بَعْضَ أزهَارِ
كَأَنَّها مَا رَأَتْ نُعمَى مِن البَاري
هَذي شَواهِقُها الصَمَّاءُ مُطْرِقَةٌ
وحَولَها أَلْفُ مُحْتَارٍ، وَمُحْتَارِ
خَمْسٌ وسِتُّونَ، يَا للهِ، ما صَدحَتْ
إلا لِتُوقِظَ أشْعَاراً، بأشْعَارِ
ألقيتَها مَثْلَ جمَرِ الحُبِّ حَارقةً
فَمَا بَكى صَاحِبٌ إلا بِقَيثَارِ
خِمْسٌ وسِتُونَ تَاهَتْ، كَيْفَ تطلُبها؟
وأَنْتَ تَمزجُ أطواراً بأطوارِ
هذَا رُفاتُكَ مِنْ قَبْلِ الغرُوبِ أتى
يُرقصُ النعْيَ بينَ الدارِ والدارِ
وهذه نخلةُ التاريخِ شاحِبَةٌ
كما رأيتَ، وهَذي بعضُ أثمَارِ
ودعتَنا وسياطُ الشَوقِ تُلْهِبُنَا
والأغنياتُ تواري لحنَهَا العَاري
ودعتَنَا أيها (الغازي) إلى شَفَةٍ
مَكْلُومَةٍ، وإلى صَمْتٍ وأسْتَارِ
خَمْسٌ وستُّونَ، والجوزَاءُ مَائلةٌ
إلى حُروفِكَ، والبيدَاءُ كَالنَّارِ
واليومَ تسمعُها لحنَ الرحيلِ كَما
أسمعتَها قبلُ لحنَ المقْدَمِ الضَاري
أَكُنْتَ أَقْسَمْتَ ألا تنتهي جَدَثاً
حتى تُعذَّبَ مَن أَسعَدتَ مِن جَارِ؟
هذَي حديقتُكَ الخَضْرَاءُ قَد عصَفَتْ
بهَا السِنينُ, وهذا صَوتُ إبحَارِ
عيَناكَ مِن كُلِّ اَرضٍ كُحَّلَت ألَمَاً
ألا جمَالٌ بغيرِ المدْمَعِ الجاري؟
خَمْسٌ وستّونَ قُلْ لي: كَيْفَ تكتُبها
قصيدةً؟ دونَ (موسيقا)، ومِزمَارِ
مَاذا تُريدُ؟ سَماءُ اللهْوِ صَافيةٌ
وأنتَ ترغبُ في غَيْمٍ وأَمْطَارِ؟!
سَافِرْ إلى الذكرياتِ البيضِ، مُمتَطِيَاً
جَوَادَ صُبحِكَ، واشدُو أيها السَاري
سَافِرْ فرُبَّ يَدٍ موثُوقَةٍ سَلِمَتْ
ورُبَّ رَاحَةٍ أَجْسَادٍ بَأسْفَارِ
خَمْسٌ وستّونَ، لو أَنْطَقْتَها بَسَمَتْ
هذَي الحيَاةُ، وهَزَّتْ كُل أَشْجَارِ
يَاشَاعِرَ الأنْسِ من للأنسِ إنْ رَحَلَتْ
بِكَ المآسي؟ ومن للكهفِ والغَارِ؟
إنَّي عَهدِتُكَ أغصَاناً، يؤرجحُها
ظِلُّ النسَيمِ، ومِشْواراً بمشْوَارِ
فَكَيْفَ عَدُتَ من الأيّامِ مُرتَعِدَاً
تَكادُ تنحَرُ أوتَاراً بأوتارِ
إذا أردتَ فَقُل لي: لَمْ أكُنْ بَطَلاً
ولَم أكُنْ وَاعِيَاً أَسِرَار أَقْدارِي
وإنْ رحَلتَ فهذا الشعرُ، أَسْكبهُ
عَلَى تُرابِكَ، إنْ لَم تُروِ أَنْهارِي