حين تغلف الشاعرية الصّناع شخصية الفارس بوشاح الشعر . . و تطغى عليها .. فلا تدعها تخلد ببطولاتها ومآتيها . . بل
تتربع في خلود
حين يستطيع الأمير البطل الفارس أن يحول هذه الرموز إلى مصادر وحي . . . يتغنى فيها شعراً رومنسياً يتحول على
فارس كلمة و وجدان بد أن يظل فارس ميدان فتتم له نقلة هائلة وراء الزمان والمكان وإذا به حاضر في كل زمان ومكان
وعالمه بدل أن يظل محدوداً بين سيف ومعركة يصبح عالمنا نحن . . جزءاً هاماً من عالمنا ننشد معه وننشج معه ونذوب
حسرات من خلال حسراته . . .
أبو فراس الحمداني شاعر وأمير عربي من الأسرة الحمدانية، ابن عم ناصر الدولة، وسيف الدولة الحمداني. حارب الروم وأسروه، واشتهر بقصائده المعروفة بالروميات.
اسمه الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني، وأبو فراس كنيته، وُلد في الموصل 320 هـ، وقُتل في 357 هـ في موقعة بينه وبين ابن أخته أبو المعالي بن سيف الدولة ، نشأ في كنف ابن عمه وزوج أخته سيف الدولة الحمداني بعد أن قتل ناصر الدولة أباه سعيد بن حمدان، فنشأ عنده كريماً عزيزاً، وولاه منبج من أعمال الشام كما صحبه في حربه ضد الروم. اغتيل والده وهو في الثالثة من عمره على يد ابن أخيه جرّاء طموحه السياسي، لكنّ سيف الدولة قام برعاية أبي فراس.
استقرّ أبو فراس في بلاد الحمدانيين في حلب. درس الأدب والفروسية، ثم تولّى منبج وأخذ يرصد تحرّكات الروم. وقع مرتين في أسر الروم. وطال به الأسر وهو أمير ، فكاتب ابن عمه سيف الدولة ليفتديه، لكنّ سيف الدولة تباطأ وظلّ يهمله. كانت مدة الأسر الأولى سبع سنين وأشهراً على الأرجح. وقد استطاع النجاة بأن فرّ من سجنه في خرشنة، وهي حصن على الفرات. أما الأسر الثاني فكان سنة 962 م. وقد حمله الروم إلى القسطنطينية، فكاتب سيف الدولة وحاول استعطافه وحثّه على افتدائه، وراسل الخصوم . وفي سنة (966) م تم تحريره. وفي سجنه نظم الروميات، وهي من أروع الشعر الإنساني وأصدقه.
علم سيف الدولة أن أبا فراس فارس طموح، فخاف على ملكه منه، ولهذا أراد أن يحطّ من قدره وان يكسر شوكته ويخذله ويذلّه بإبقائه أطول فترة ممكنة في الأسر.
ولهذا قام بمساواته مع باقي الأسرى، رغم انه ابن عمه، وله صولات وجولات في الكرم والدفاع عن حدود الدولة وخدمة سيف الدولة الحمداني.
سقوط الفارس في ساحة الميدان
بعد سنة من افتداء الشاعر، توفي سيف الدولة (967) م وخلفه ابنه أبو المعالي سعد الدولة، وهو ابن أخت الشاعر. وكان أبو المعالي صغير السن فجعل غلامه التركي فرعويه وصياً عليه. وعندها عزم أبو فراس الحمداني على الاستيلاء على حمص، فوجّه إليه أبو المعالي مولاه فرعويه، فسقط الشاعر في أوّل اشتباك في الرابع من نيسان سنة 968 م وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
وهكذا نجد أنّ رأي سيف الدولة الحمداني فيه كان صادقاً وفي محله. فقد كان أبو فراس الحمداني طموحاً الأمر الذي جرّ عليه الويلات
. .
صراعه مع المتنبي
جاء في الصبح المنبي ((أن أبا فراس بن حمدان قال لسيف الدولة :أن هذا المتشدق كثير الادلال عليك وأنت تعطيه كل
سنة ثلاثة ألف دينار عن ثلاث قصائد ويمكن أن تفرق مئتي دينار على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره . .
فتأثر سيف الدولة من الكلام وعمل فيه وكان المتنبي غائباً فبلغته القصة ولما حضر دخل على سيف الدولة وأنشد
القصيدة التي مطلعها :
الا ما لسيف الدولة اليوم عاتباً = = فداه الورى أمضى السيوف مضارباً
قال : فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق
المتنبي وانقطع أبو الطيب بعد ذلك ونظم قصيدة التي أولها وأحر قلباه ممن قلبه شبم
. . ثم جاء وأنشدها وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه بقوله :
ما لي أكتم حباً قد برى جسدي = = وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إلى أن قال :
قد زرته وسيوف الهند مغمدة = = وقد نظرت إليه والسيوف دم
فهمّ جماعة بقتله في حضره سيف الدولة لشدة أدلاله وأعراض سيف الدولة عنه فلما وصل في إنشاده إلى قوله :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي == فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
قال أبو فراس : قد مسخت قول دعبل
ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت = عيني دموعاً وأنت الخصم والحكم
فقال المتنبي :
أعيذها نظرات منك صادقة = أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فعلم أبو فراس أنه يعنيه فقال : ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه فأستمر المتنبي في
إنشاده
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا = بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي = وأسمعت كلماتي من به صمم
فزاد ذلك أبو فراس غيظاً وقال: قد سرقت هذا من عمروا بن عروة بن العبد حيث قال
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت = دهراً وأظهرت أغراباً وإبداعا
حتى فتحت بإعجاز خصصت به = للعميّ والصم أبصاراً وأسماعاً
ولما انتهى إلى قوله :
الخيل والليل والبيداء تعرفني = والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال أبو فراس : وماذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بكل هذا تمدح الأمير بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير
أما سرقت هذا من الهيثم بن الأسود النجفي المعروف بابن العريان العثماني
أنا ابن الفلا والطعن والضرب و السرى
وجرد المذاكي والقنا والقواضب
فقال المتنبي :
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره = إذا استوت عنده الأنوار والظلم
فقال أبوا فراس : وهذا سرقته من قول معقل الحجلي:
إذا أميز بين نور وظلمة = بعيني فالعينان زور وباطل
وضجر سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذا القصيدة فضربه بالدواة
التي بين يديه فقال المتنبي ارتجالاً
أن كان سركم ما قال حاسدنا = فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وأعجب سيف الدولة ببيت المتنبي ورضي عنه . . وفي الحال وأدناه إليه وقبل رأسه وأجازه بألف دينار ثم أردفها
بألف أخرى . . فقال المتنبي :
جاءت دنانيرك مختومة = عاجلة ألفاً على ألفِ
أشبهها فعلك في فيلق = قلبتها صفاً على صف
الرسالة – القصيدة :
اتخذ أبو فراس الشعر في رسائله بد من النثر وتعاطى مع أخوانه وأصدقائه في شؤونهم اليومية وشجونهم بالشعر
وتبادل معهم
العواطف بالشعر والتحيات بالشعر وكان كافيا البيت والبيتان أو الثلاثة ليرسل تحية أو يبث شكوى أو يرد جميلاً
قال يعتب على صديق أظهر له الجفاء :
لم أؤاخذك بالجفاء لأني = واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل = وقبيح الصديق غير قبيح
وكتب في وصف رسالة بليغة وردت عليه من صديق له أديب
عذوبة صدرت من منطق جدد = كالماء يخرج ينبوعاً من الحجرِ
وروضة من رياض الفكر دبجها= صوت القرائح لا صوت من المطرِ
الروميات :
رسائل شعرية بعث بها من أسره في بلاد الروم إلى ابن عمه وأمه وصحبه
لذلك اتشحت الروميات بوشاح الأسى والألم ونضحت بالعنفوان الجريح وهتفت من خلالها روح البطل الأسير تخلى عنه
أقرب الناس إليه وفتى ماجد كان ملء السمع البصر في ميادين حلب فإذا به مهيض الجناح مثقل بالحديد مرهق بذل الأسر والظلم الآسر
ويحار الفتى الأسير ويستغرق في تساؤلات حيرى تزخر بها رسائله الرومية مثل : كيف، وأنى ، ولماذا ،وعلام ،وفيما
ومتى تقابلها (أنا) متوحدة طاغية لم يعد سواها في وجودية أبي فراس ( أنا ) يحتضنها احتضاناً هائلاً فتتدفق روح
أبية شابة لا تستجدي الفداء ولا تطلبه منة أو عطاء بلا مقابل . . تطلبه رحمة بالفادي نفسه استجابة لصوت الحق والضمير
والقربى ومن أجل قضية واحدة
هذه الروميات الرسائل التي يضعها صاحب دائرة المعارف في (( الذروة من الشعر العاطفي الخالص الحنين الأليم
الذكريات الدامي الأسى ))
كما يعتبرها ((من أروع مذكرات الأسر وأصدقها حساً وأصفاها شاعرية ))
دعوتك للجفن القريح المسهد = لدي وللنوم القليل المشرد
وما ذاك بخلاً بالحياة وأنها = لأول مبذول لأول مجتد
ولا زال عني أن شخصاً معرضاً = لنبل العدا أن لم يصب فكأن قد . .
ولكنني أختار موت بني أبي = على سروات الخيل غير موسد
أبو فراس في أسره ظل موصولاً بأحلامه وآلامه لأنه كان شاعراً وموصولاً بالكون والإنسان والأشياء وكل ما يوحي
بالحياة فيه وفيها ليظل موجوداً عبر البث والنجوى والأنين يرسل كل هذا شعراً رومنسياً إطاره الكآبة والحزن ومصدره
الألم الدفين وانسحاق الذات
هو ذا الأمير الأسير يشارك صوت الحمامة الحنين والأنين ويقاسم الحمامة أحزانها فكانت أهزوجة التي شقت طريقها إلى
أرواحنا وكأنها رجع ذكرياتنا نحن وحنينا إلى هديلنا
أقول وقد ناحت بقربي حمامة = أيا جارتا هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ! ما ذقت طارقة النوى = ولا خطرت منك الهموم ببال ِ
أتحمل محزون الفؤاد القوادم = على غصن نائي المسافة عالِ
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا = تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاً لدى ضعيفة = تردد في جسم يعذب بالِ
أيضحك مأسور وتبكي طليقة = ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة = ولكن دمعي في الحوادث غالي
فجيعته بأمه :
تلك هي قسوة القدر الغلاّب تحملها الأمير الأسير محتسباً هاجساً بالموت كنهاية تتصاعد بكائية الولد المفجوع في
أجواء مشاركات وجدانية ذاهلة حين يستدعي للبكاء معه كل رموز الحياة على مصدر الدفء والحنان والطهر والتضحية
والبراءة : الأم
رثاء أبي فراس لأمه هو رثاء روح لروح هما في الواقع روح واحدة
أيا أم الأسير سقاك غيث = بكره منك ما لقي الأسير
أيا أم الأسير سقاك غيث = تحير لا يقيم ولا يسير
أيا أم الأسير سقاك غيث = إلى من بالفدا يأتي البشير ؟
أيا أم الأسير لن تُربى = وقد مت الذوائب والشعور ؟
إذا ابنك سار في بر وبحر = فمن يدعو له أو يستجير ؟
غزلياته
أحب أبو فراس حباً فروسياً أبياً فلم يسمح لقلبه أن يذوب أمام الجمال وللجميل أن يمتلكه فيذله حبه إذن حب عنتري لا
عذري يجمع إلى الشوق والهيام استعلاء الرجولة وإباء الفرسان مع وفاء عُرف به في جميع حالاته
لكننا لا نرى في غزله عامة تعبير عن حب حقيقي فلا أثر في غزله لشخصية حبيب معين له صفات محددة وليس في
أخباره أنه أحب فتاة معينة
أساء فزادته الإساءة حظوة = حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي العاذلون ذنوبه = ومن أين للوجه المليح ذنوب
فيا أيها الجافي ونسأله الرضا = ويا أيها الجاني ونحن نتوب
وقال أيضا
ما أنس قولتهن يوم لقينني = أزرى السنان بوجه هذا البائس
قالت لهن : وأنكرت ما قلنه = أجميعكن على هواه منافسي ؟
أني ليعجبني إذا عاينته = أثر السنان بصحن خد الفارس
وقال أيضا
أجملي يا أم عمرو = زادك الله جمالاً
لا تبيعني برخص أن= في مثلي يُغالى
أنا أن جدت بوصل = أحسن العالم حالاً
عصي الدمع : خليط من غزل وفخر
في الواقع هذه ليست غزلاً محضاً ولا هي فخر محض أنها سورة ذكريات تبريرية لنفس عالقة على مشارف مجد مفقود
وسعادة مأسورة وما الحسناء التي يحاورها الشاعر متغازلاً سوى رمز من رموز تشامخه وفتوته
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر = أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة = ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى = وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي = إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه = إذا مت ظمأنا فلا نزل القطر
بنفسي من الغادين في الحي غادة = هواي لها ذنب وبهجتها عذر
بدوت وأهلي حاضرون لأنني = أرى أن داراً لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك وأنهم = وإياي لولا حبك الماء والخمر
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة = لإنسانة في الحي شيمتها الغدر
تسائلني من أنت ؟ وهي عليمة = وهل بفتى على حله نكر!
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى = قتيلك ! قالت أيهم ؟ فهم كثر
فقلت لها لو شئت لم تتعنتي = ولم تسألي عني وعندك بي خبر
وما كان للأحزان لولاك مسلك = إلى القلب لكن الهوى للبلى جسر
وتهلك بين الهزل والجد مهجة = إذا ما عداها البين عذبها الهجر
فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق = وأن يدي مما علقت به صفر
فعدت إلى حكم الزمان وحكمها = لها ذنب لا تجزى به ولي العذر
فلا تنكريني يا ابنه العم أنه = ليعرف من أنكرته البدو والحضر
وأني لجرار لكل كتيبة معودة = أن لا يخل بها النصر
نهاية أبي فراس:
نقلاً عن رواية ابن خالويه أن لما حضرت أبو فراس الوفاة أطلق هذه الأبيات يخاطب بها ابنته
أبنيتي لا تجزعي = كل الأنام إلى ذهاب
أبنيتي صبراً جميـلاً = للجليل من المصاب
نوحي علي بحسرة = من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني = وعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فراس = لم يُمتع بالشباب
يمضى أبو فراس الفتى ويبقى أبو فراس الشاعر الوجداني المشع شعره بالألق والألم الناضج بالتجربة المرة الهاتف
قبيل الموت بأقسى وأصفى وأصدق ما يعتلج به قلب الفارس الشاب
زين الشباب أبو فراس = لم يمتع بالشباب