يتوحد به قيض النهار على مهل. الشمس ترسل خيوطها السميكة لتحكم قبضتها على لؤم الطقس وأمزجة البشر. درجة الحرارة تقترب من الخامسة وأربعين. هذا الرقم لا يعني له، في هذه اللحظة، سوى عمر عبر منه ذات نهار حار آخر. تشتعل الأرض تحت سجادته، فينطفئ. جاءها مشتعلا فانطفى. ذاب في نبل روحه لحظة اشتعالها.

يتفرس في تفاصيل وجه يومه الجديد كليا. ها هو. ها هي. قهوة صباح مجهولة يحتسيها الشجعان. نهار من الأحاديث الهادئة والأسئلة والتسول. ساعات من الزهو ... والقلق ... والاحتقار الغريزي. كان يوما من صنف \الخروج عن ذاكرة الذاكرة\. حارا. ممتعا. رطبا . منصفا. مترعا بالتفاصيل البليدة. كان يوما للتاريخ ... للثورة ... للفوضى ... لشيوخ قبلوا رأسه. كانوا ينامون كل ليلة \ على أهبه الرغيف.

يتخيل نفسه ذلك الشخص القادم لاستبيان الوضع. رجل شرع باب خيمة صغيرة، نصبها على شارع عام في وسط المدينة. يدعي أنه يمارس الاعتصام. يجلس الى جوار لافتة كتب عليها بخط يدٍ بيضاء، "جائع ..اطالب براتبي". ماذا كنت سأفعل؟. هل أحزن ... أبكي ... أضحك ... اتشظى ... أموت مع آخر خطوة أخطوها عند حرمة الخيمة.

يقولون "السلام عليكم". علامات استفهام تمشي على قدمين. اسئلة تسبق الأسئلة. يلتقط سؤال آخر من زائر نهار آخر. يجيب ببياض الإنسان القابع في داخله وصدق نواياه. هو يعرف كل الاجابات ومع ذلك كان في كل مرة يتوقع نفس السؤال. "أين قلبك؟". يرقبه في أوراقهم. يلمحه خلف أعينهم الشمسية.
يقول لهم "تبا لتوريث الخيبات".

تسابقت على الخيمة عدسات الكاميرا. زاره صحافيون عدة ومسؤول واحد. لم يخل الأمر من اطلالات الفضوليين. هؤلاء كانت أسئلتهم أكثر مباشرة "ما تخاف من المباحث؟". يقول لهم "انسان له حق، اين يذهب؟". يضطر أن يجيب، وعيناه تغازلان المبنى المقابل من خلف نظارة سميكة. "طبعا للحقوق". معظمهم يكتفون بابتسامات ماكرة. أحدهم قبل أن يرحل قال له " أقووول انت وخيمتك ... ورا ما ترب دلال"؟.

(صوره التي أفردت لها الصحف، مساحات، "النجم" في اليوم التالي، من المغامرة، كانت لغزا حقيقيا لمن يعرفه. هذا الفقير الذي تأخر راتبه، فجلس لوحده محتجا في خيمة داخل صورة في بطن جريدة. هذا من أصحاب رؤوس الأموال وأحد اقطاعيي "ما قبل السوق". هكذا يصنف في اجندة ناقموا النعمة. يكتفي هو بحجم المرارة التي مررها من خلال الصورة لمن لا يعرفه. الذي يعرفه، يعرف أنه يشتري التونة للقطط المواءه عند غرفته المنزويه، ويشارك القطط العشاء.
يحضر فتحضر روحه الساخرة. يضحك الأصدقاء. يتشدق بعضهم. يدركون ....!)

الى جواره في داخل الخيمة فانوس. في يده اليمنى قطعة من السعف، يستنشق منها بعض الهواء، وفي اليسرى جوال لا يتوقف عن الرنين. يثرثر كثيرا. يشكو. يصرخ. يرثي حال رفاقه الجياع.. يتذمر. يثور في وجه الخذلان. يصمت. يضحك. يسخر. يسخر منه... من هيئته ... من خيمته ... وحجته التي عرضها يوما للبيع.
وحده الآن في الخيمة. أنتهى دوام "الحقوق". تمت العملية. وصل الطرد.
يستجمع بعض قواه. يتأمل حوله. يتفحص عقله. يركل السيناريوا. يلعن "الأرصاد". يتكلم. يهذي. يسأل "من كنت \ كم عددي؟".
يغافله صوت الريح ..... يهمس للقوافل ... للمنازل ... للجياع
....
..
"رجل يترافع عن ألف \ رجل بـ ألف"


منقول ..

(( لا يسمح بالروابط لمنتديات أخرى ... تم حذف الرابط مع الإعتذار ))
الإدارة