الغاية قد يكون لها أكثر من طريق
بقلم: فضيلة الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: إن اختيار العبارات الموصلة للغاية بغير تشويش، أسلوب ينبغي أن يتبعه اللبق الحصيف، ولاسيما إذا كان يليه أمر منبر خطابي أو إذاعي أو صحافي، وعلى المتحدث عموماً أن يكون حكيماً يختار الكلمة المناسبة ويضعها في موضعها المناسب وفي الوقت المناسب.
لقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى عمر غضبه قال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً. نعوذ بالله من غضب الله، وغضب رسوله، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه، فقال عمر: يا رسول الله: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: "لا صام ولا أفطر" أو قال: "لم يصم ولم يفطر" قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: "ويطيق ذلك أحد!" قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: "ذاك صوم داود عليه السلام"، قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طوقت ذلك" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، وصيام عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي قلبه" وعلى مثل أسلوب عمر رضي الله عنه فليجر المسلم، ليبحث في خطابه عن الألفاظ المناسبة وليطرح كلامه بالصيغة المرضية، فيراعي نفسيات المخاطبين ويراعي منازلهم، ولتحقيق ذلك لابد أن ينتقي المسلم العبارات والألفاظ، ويفكر في الكلام قبل إخراجه إلى أن يكون اختيار الأحسن طبعاً له وديدناً مطرداً. تأمل أسلوب عمر -رضي الله عنه- فقد وصل إلى مقصود السائل دون أن يُثير غضب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو أسلوب الحكيم، وقد صنعه عمر في غير موقف ومن ذلك الخبر الصحيح في اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه رضوان الله عليهن كما في حديث جابر، حيث استأذن عمر ثم لاطف النبي صلى الله عليه وسلم بما يضحكه، ثم تحين وقت سؤاله عما يريد.
والشاهد الذي يجب مراعاته هو أن الغاية قد يكون لها أكثر من طريق يوصل إليها، بعضها شاق وعسير قد يهلك المرء قبل أن يصل إلى غايته، وأخرى سهلة ويسيرة لا تكلف شيئاً، وقد نجنح إلى الأشق والأصعب، وندع الأسهل بسبب جهلنا أو غفلتنا.
وكذلك دعوة الناس إلى الحق قد يكسوها بعبارات سيئة منفرة تعود على مقصوده بالنقض وقد يبلغها بعبارات جميلة جزلة منتقاة تقع في نفس السامع موقعاً خاصاً فتصيب داءً كامناً فتقتله، أو تبعث عزيمة ميتة فتحييها. وقصة هذا الصحابي وعمر -رضي الله عنهما- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرتني بقصة تحكى عن بعض الخلفاء، مفادها أنه رأى في منامه أن أسنانه سقطت، فطلب أحد المعبرين، فقال له: إن أهلك يموتون وتبقى أنت، فأمر بضربه وإخراجه. ثم طلب معبراً آخر، فقال: هذه بشرى لك بطول العمر، فأمر بإعطائه جائزة وقربه. مع أن المعنى واحد، ولهذا علق السرخسي بعد أن ذكرها(1) قائلاً: "وهما في المعنى سواء، ليعلم أنه ينبغي للمرء أن يراعي عبارته" ثم قال: "وإذا أسر الأسير وابنه من المسلمين، فأرادوا قتلهما، فقال الأب: قدموا ابني بين يدي حتى احتسبه. فهو آثم في مقالته فعلوا ذلك أو لم يفعلوا؛ لأنه أمرهم بمعصية الله تعالى ولو قال: إني أريد أن احتسب ابني فلا تقتلوني قبله. رجوت ألا يأثم" والشاهد أن على المرء أن يراعي عباراته وينتقي ألفاظه، فاللسان هو الناطق الرسمي باسم الإنسان، وبأقواله يدان، وإذا لم ننقح العبارات التي نخاطب بها الآخرين فلنعذر من فهم فهماً صواباً لعبارات خاطئة عبرت عنّا، فإنه لا يعلم السرائر وما تكنه الضمائر إلاّ اللطيف الخبير سبحانه وتعالى. ومما يستفاد أيضاً معرفة أن الغايات المحمودة يجب التوسل إليها بأسلوب لا يثير فتنة، ولا يكلفنا عنتاً مهما أمكننا ذلك، هذا هو الواجب والعاقل من عرف خير الخيرين، وشر الشرين. فعلى الخطباء وغيرهم ممن تصدروا منابر للدعوة أن يراعوا أسلوبهم ليحصلوا على مبتغاهم، وكم رأينا من غاية واحدة قصدها اثنان فنفر أحدهما الناس وحببها آخر إلى الناس، ومع أن المعنى واحد تجدهم يحمدون هذا ويذمون هذا.
وصدق ابن القيم حيث قال: "وإذا تأمل العاقل الفطن هذا القدر وتدبره رأى أكثر الناس يقبل المذهب والمقالة بلفظ ويردها عينها بلفظ آخر، وقد رأيت أنا من هذا في كتب الناس ما شاء الله وكم رد من الحق بتشنيعه بلباس من اللفظ قبيح"(2). نسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلاّ هو، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) ذكرها في شرح كتاب السير الكبير وقد ذكرها ابن القيم -رحمه الله- في (إعلام الموقعين)، مبيناً أن المعنى الذي قد يرده بعض الناس، قد يقبلون إذا أدي بعبارة أخرى، وأن على المرء أن ينظر في مضمون الكلام وحقيقة معناه. (2) مفتاح دار السعادة ص141.