من الأمور التي تحفظ العشرة الطيبة بين الخلق: التحلي بأداب التخاطب والمحادثة،
ورُبَّ كلمةٍ طيبةٍ أَلَانَتْ قلباً قاسياً، ورُبَّ كلمةٍ جافةٍ أذهبت مودةً قائمةً، وقطعت صداقةً دائمةً،
بل رب كلمة سلبت نعمة، بل رب كلمة كانت سبباً في الوقوع في النار، وقد أخرج أحمد
والترمذي وصححه قول معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم:
يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّا لَنُؤَاخَذُ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم:
«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»( ).
ولا شك أن الكلمة لها فعل السحر في القلب، فإن طابت عند خروجها من فم صاحبها زانته
ورفعت قدره وجمعت القلوب من حوله، وإن ساءت كانت وبالاً عليه وخساراً، ولذلك سمى
النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحرًا، فقال فيما أخرجه البخاري عن ابن عمر
رضي الله عنهم: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً»( ).
ولهذا كان حرص الإسلام على أن يراعي كل مسلم آداب المحادثة والتخاطب مع الخلق،
وأولها: مراعاة حال الشخص الذي تكلمه وتحادثه، فليس كل الناس على مستوى واحد من
الفهم، وقد يقول الإنسان كلمة فيفهمها السامع على غير وجهها، فتكون سببا في فتنته أو
في سوء ظنه بالمتكلم، أو في فساد العلاقة مع المتكلم، بل ربما أدت الكلمة غير الواعية إلى
كفر سامعها، ولذلك كان عَلِيٌّ رضى الله عنه يقول: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ
يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟!»( )، وكان عبد الله بن مَسْعُودٍ رضى الله عنه يقول: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ
قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»( ).
ومن آداب المحادثة: ألا يزكي المتكلمُ نفسَه، ولا يكثر من الحديث عن نفسه وأعماله ومناقبه
وأوصافه، وقد قال تعالى((فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)) (النجم: 32)، كما ينبغي
ألا يبالغ في المدح لصاحبه، بل يكون معتدلا في الكلام، فقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ الثقفي
رضى الله عنه قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَقَالَ:
«وَيْحَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ». مِرَارًا «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ
لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا وَاللهُ حَسِيبُه، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ -إِنْ كَانَ
يَعْلَمُ ذَاكَ- كَذَا وَكَذَا»( ).
ومن آداب المحادثة: عدم التعالي في الخطاب، والتواضع للمخاطب؛ حتى تبقى القلوب
سالمة من الحسد والبغضاء، وقد أخرج مسلم من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ
رضى الله عنه قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ:
«... وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِليَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»( ).
ومن آداب محادثة الخلق: مراعاة مناسبات الكلام، فلا يخاطب الفرحان السعيد بما يكدر فرحه،
ولا يخاطب المصاب المبتلى بما يشعر بعدم المبالاة بما أصابه، أو عدم الاكتراث لما يقاسيه،
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم مشاركة المسلم في أفراحه وأحزانه من حق المسلم على
إخوانه، إن أصابته مصيبة عزاه، وإن رزقه الله خيرا هنأه، وبذلك تبقى النفوس على مودتها
ومحبتها.
ومن آداب المحادثة: خفض الصوت إلا لحاجة، فقد قال تعالى حكاية عن وصية لقمان الحكيم لابنه:
((وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)) (لقمان: 19).
ومن آداب المحادثة: استخدام الطيب من الألفاظ وعدم الجهر بالسوء والغليظ من القول، وقد
وصف الله أهل الجنة، فقال: ((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)) (الحج: 24)،
وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة الطيبة من جملة الصدقات، فقال فيما أخرجه الشيخان
عن أبي هريرة رضى الله عنه : «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»( ).
ودعا النبيصلى الله عليه وسلم إلى الحرص على كلمة الخير الطيبة الكريمة، فإن لم يجد من
الخير ما يقوله فليلزم الصمت حتى يجد الطيب من القول، وقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضى الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»( ).
وبين الحق سبحانه أنه لا يحب الجهر بكلمة السوء، فقال تعالى:
((لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)) (النساء: 148).
ومن آداب المحادثة: ترك الجدال وعدم التمسك بالخطإ متى ظهر للإنسان، فإن ذلك مما يغير
القلوب، وقد أخرج أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا،
وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ في أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ»( ).
كما أخرج أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضى الله عنه أيضا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ».
ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) ( ) (الزخرف: 58).
ومن آداب المحادثة: عدم مقاطعة المتكلم حتى ينتهي من كلامه، فهذا فيه توقيرٌ للمتكلم،
واحترام لمشاعره، وهذا من تمام الأدب، المفضي إلى ارتياح من يخاطبه، فقد أخرج الترمذي
في الشمائل من حديث على بن أبي طالب رضى الله عنه في سيرته r في جلسائه، قال:
«لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلَّم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم...»
الحديث( ).
فلنتخلق بهذه الآداب وغيرها، حتى يطيب الخطاب وتحلو المحادثة بين الناس، ويرتاح الخلق
بعضهم في محادثة بعض، والله أسأل أن يرزقنا التوفيق إلى أطيب الحديث وأعذب الخطاب،
وأن يهيء لنا من أمرنا رشدا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم : د.عبدالرحيم البر