الابتــهاج بالعيـــد لا يستحقه إلا الشاگرون
بقلم: معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد *رئيس مجلس الشورى
حصيلة المؤمن في دنياه عمر محدود بالساعات والثواني، وكسبه المبذول رصيد مدخر بالأعمال المنجزات من غير كسل أو توانٍ، يتقلب في عمر الحياة بقدر ما كتب له من فسحة، ويكدح فيها لينال أكبر المغانم، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل.
ومن كانت حصيلته ملأى بالخير من مختلف صنوفه فليهنأ وليستمسك {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (58) سورة يونس . وأما من كان غارقاً في الشهوات والنزوات فقد طال عناؤه وعظم شقاؤه ومن نوقش الحساب هلك. ولقد كان من وافر حظ أمة الإسلام وعنوان سعادتها وكرامة الله لها تهيئة فرص الكسب المبرر لصرف لحظات العمر وسويعات الحياة في دروب الطاعات ومسالك الخيرات، سعي حثيث للتزوّد من الباقيات الصالحات، ذلكم هو شهر الخير والبر شهر رمضان شهر هذه الأمة، نزل فيه كتابها وتحقق فيه كثير من انتصاراتها، قطع الله فيه دابر الوثنية وقوض بنيانها، شهر صيام وقيام وذكر وتبتل، شهر عمل وجهاد وجد واجتهاد، زاد لما بعده من الشهور واخذ للعدة في مستقبل الأيام، يجتهد فيه أقوام جعلوا رضا الله فوق أهوائهم وطاعته فوق رغباتهم، أذعنوا لربهم في كل صغيرة وكبيرة يتوقون الذنوب ويخافونها كما يخافون ألد الأعداء. من صام نهار هذا الشهر وصلى ورداً من ليله، وقام بما افترض الله عليه، وغض بصره وحفظ سائر جوارحه، وحافظ على الجمعة والجماعة فقد صام الشهر وعظم رجاؤه بالفوز بجائزة الرب. أي عقل أو حزم عند من يدرك مواسم الفضل ثم لا ينافس فيها. مسكين كل المسكنة من أدرك هذا الموسم العظيم ثم لم يظفر من مغانمه بشيء، ما حجبه إلا الإهمال والكسل والتسويف وطول الأمل. والأدهى من ذلك والأمر أن يوفق أناس لعمل الطاعات والتزود في فرص الخيرات حتى ما إذا انتهى الموسم نقضوا ما أبرموا وعلى أعقابهم نكصوا، واستدبروا الطاعات بالمعاصي واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، تلك هي النكسة المردية والخسارة الفادحة. أين دروس الصلاح والطهر والاستقامة والتقى من هذا الشهر الكريم؟ إن استدامة العبد على المنهج المستقيم والمداومة على الطاعة من غير قصر على وقت معين أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ }[الأحزاب: 23]. نعم هل رأيتم أعظم مقتاً من الكسل بعد الجد والتواني بعد العزم، ولكن أشد منه من تنكب السبيل فعاد إلى حماة الصبوات والهفوات ومقارفة الآثام بعد إذ نجاه الله منها، فيدخل في غمرة السهو ولجة اللهو، ويغدو بعد الحزم والعزم متردياً في مهاوي الردى، وكأنك منفك من أسر أو منطلق من عقال.
وإن من مظاهر الإحسان في خواتيم هذا الشهر الكريم وتوديعه بحسن الختام إخراج زكاة الفطر حيث تأتلف القلوب ويتعاطف الغنى مع الفقير، فرضت طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصر غني، ومقدارها صاع من طعام من غالب قوت البلد كالأرز والبر والتمر عن كل مسلم. ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة ويجوز تقديمها قبل ذلك بيوم أو يومين.
فأخرجوها طيبة في نفوسكم تكف بها يد المسكين عن الطلب ويستغني بها من غير مسألة، ويشارك إخوانه بهجة العيد فالعيد موسم بهجة بعد أداء الفريضة، ابتهاج بالتوفيق لأداء شهر الصوم. وقد قيل: من أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى ارفع ذروة، وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى حيث يبدو في العيد متماسكاً متعاوناً متراحماً تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء. إن العيد في الإسلام غبطة في الدين والطاعة وبهجة في الدنيا والحياة ومظهر القوة والإخاء، إنه فرحة بانتصار الإرادة الخيّرة على الأهواء والشهوات، وبالخلاص من إغواءات شياطين الإنس والجن والرضا بطاعة المولى، والوعد الكريم بالفردوس والنجاة من النار. في الناس من طغت عليه فرحة العيد فتستبد بمشاعره ووجدانه لدرجة تنسيه واجب الشكر والاعتراف بالنعم، وتدفعه إلى الزهو بالجديد والإعجاب بالنفس حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي والكبر والتعالي، وما علم هذا أن العيد قد يأتي على أناس قد ذلوا من بعد عز فتهيج في نفوسهم الأشجان وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان، بعد وفرة النعيم، فاعتاضوا عن الفرحة بالبكاء، وحل محل البهجة الأنين والعناء. كم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية ويلتمس حنان الأم الرءوم يرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه، كم من أرملة توالت عليها المحن فقد عشيرها تذكرت بالعيد عزاً قد مضى تحت كنف زوج عطوف، كل أولئك وأمثالهم قد استبدلوا بعد العز ذلاً وبعد الرخاء والهناء، فاقة وفقراً. فحق على كل ذي نعمة ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى ويرحم أعزاء قوم قد ذلوا، كم هو جميل أن تظهر أعياد الأمة بمظهر الواعي لأحوالها وقضاياها فلا تحول بهجتها بالعيد دون الشعور بمصائبها التي يرزح تحتها فئام من أبنائها حيث يجب أن يطغى الشعور بالإخاء قوياً فلا تنس أفغانستان ولا فلسطين وأراضي للمسلمين أخرى منكوبة بمجاهديها وشهدائها بيتاماها وأراملها بأطفالها وأسرها يستجدون أمم الأرض لقمة أو كساء وخيمة وغطاء وفي المسلمين أغنياء وموسرون. وكم هو جميل كذلك أن يقارن الاستعداد للعيد لفرحته وبهجته استعدادا لتفريج كربة وملاطفة يتيم ومواساة ثكلى، يقارنه تفتيش عن أصحاب الحوائج فان لم تستطع خيراً ولا مالاً فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية ولفتة طاهرة من قلب مؤمن. إنك حين تأسو جراحك، وحين تسد حاجة جيرانك إنما تسد حاجة نفسك { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ } [البقرة: 272] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } [فصلت: 46].
إن الابتهاج بالعيد لا يستحقه إلا الشاكرون، وما الشكر عليها إلا صمود لنوائب الدهر ويقظة لدسائس العدو وعمارة للأرض بنشر دين الله.