كن في جانب الله ورسوله
لابن قيم الجوزيـــــــــــــــــة _( بتصرف )-

إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر فذلك يفضي إلى المشاقة والمحادة وهذا أصلها ومنه اشتقاقها فإن المشاقة أن يكون فى شق ومن يخالفه في شق والمحادة أن يكون في حد وهو فى حد ولا تستسهل هذا فإن مبدأه تجر الى غايته وقليله يدعو الى كثيره وكن فى الجانب الذي يكون فيه الله ورسوله وإن كان الناس كلهم فى الجانب الآخر فإن لذلك عواقب هى أحمد العواقب وأفضلها وليس للعبد أنفع من ذلك فى دنياه قبل آخرته وأكثر الخلق إنما يكونون من الجانب الآخر ولاسيما إذا قويت الرغبة والرهبة فهناك لا تكاد تجد أحدا فى الجانب الذى فيه الله ورسوله بل يعده الناس ناقص العقل سيء الإختيار لنفسه وربما نسبوه إلي الجنون وذلك من مواريث أعداء الرسل فأنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس فى شق

وجانب آخر ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام
يكون يقينا له لا ريب عنده فيه وإلي صبر تام علي معاداة من عاداه ولومه من لامه ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية فى الله والدار الآخرة بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وليس شيء أصعب علي الانسان من ذلك فى مبادىء الأمر فإن نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشيره من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل فإذا خالفوهم تصدوالحربة فإن صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلا وذلك الألم لذة فإن الرب شكور فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه إلي الله والى رسوله ويريه كرامة ذلك فيشتد به سروره وغبطته ويبتهج به قلبه ويظفر بقوته وفرحه وسروره ويبقى من كان محاربا له على ذلك بين هائب له مسالم له ومساعد وتارك ويقوى جنده ويضعف جند العدو ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك فان الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك وإنما امتحن يقينك وصبرك
ثم اعلم أن أعظم الأعوان لك بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز إلى الله ورسوله وكنت دائما فى الجانب الذى فيه الله ورسوله ومتي قام بك الطمع فلا تطمع فى هذا الأمر ولا تحدث نفسك به فان قلت فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع قلت بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعِلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلاهو ولا يذهب بالسيآت
إلا هو وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء

نصيحة


هلم إلي الدخول على الله ومجاورته فى دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها وذلك أنك فى وقت بين وقتين وهو فى الحقيقة عمرك وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل فالذى مضي تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق إنما هو عمل قلب وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته وإنما هو عزم ونية جازمه تريح بدنك وقلبك وسرك فما مضى تصلحه بالتوبة وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية وليس للجوارح فى هذين نصب ولا تعب ولكن الشأن فى عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين فأن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك وان حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكرتُ نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم وحفظه
أشق من إصلاح ما قبله وما بعده فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها وفى هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت فهى والله أيامك الخالية التى تجمع فيها الزاد لمعادك إما إلى الجنة وإما الى النار فان اتخذت إليها سبيلا الى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر فى هذه المدة اليسيرة التى لا نسبة لها إلى الأبد وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب انقضت عنك بسرعة وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته اشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر
عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفة الهوى لأجله