بسم الله الرحمن الرحيم
الفرحُ الرَّزين ..!!


الفرحُ خصيصةٌ من خصائصِ النَّفسِ البشريَّةِ، ولونٌ من ألوانِ التنفيسِ الدّاخلي، وشكلٌ من أشكالِ التّعبيرِ، ونزعةٌ من نزعاتِ الفطرة، يكونُ باعثهُ إنجازاً سعيداً، أو مناسبةً مبهجةً ، أو تحقيق هدفٍ منشود، أو نيلِ مأربٍ مقصود، أو كلّ ما يشيعُ في النفسِ الحُبور ، والإحساسِ بالسرور .. وهو منالُ الإنسانِ ومطلبهُ ، ومسعاهُ ومأمله .. فأيُّ إنسانٍ لا يسعى للفرح ..؟! هذا الذي يُشعرهُ بالارتياحِ، والانتصار.. والسعادة.

والشّعوب تعبِّرُ عن أفراحها بتقاليدَ مختلفةٍ ، وعاداتٍ متباينة ، ممتدّةٍ عبر تاريخها ، ومتطوّرة خلال مساقاتها الثقافية ، ومنسجمةٍ مع معتقداتها ، ومعبِّرةٍ عن هويّاتها ، ومجسِّدةٍ لأفكارها .. هذه الأشكالُ من التعابير تظهرُ في مناسباتٍ مختلفةٍ ، واحتفالياتٍ متنوِّعة ، ولكلِّ شعبٍ ما يتعلَّقُ به من الأنماط السلوكيَّةٍ التي تشكِّلُ فرحهُ ، والحركاتِ البدنيَّة التي تعبِّر عن مكنونِ سعادتهِ ..

إنّما التعبيرُ عن الفرحِ لونٌ من ألوان الثقافةِ ، ومرآةٌ من مرايا الهويَّة ، فمن خلاله تُدرسُ طبائع ، وتسبرُ نفسيَّات ، وتؤرّخُ مراحل .. وعليه يقاسُ الإنسان في مدى نضجهِ ، وتوازنه ، وتحكّمه في عواطفه في طريقةِ تعاطيهِ مع الفرحِ ، وكيفيَّةِ التعبيرِ عنه.. وليس أشدُّ على الرجل الوقورِ من فقدانِ وقارهِ في فرحه ، فإذا بك تسمعُ من الرّجل ضحكتهُ المجلجلة ، وصرخاته الناشزة ، لغيرما داع ، ودونما سبب ..!! فيسقطُ عينيك ..! وإذا بك تشاهدُ الرجلَ الذي احترمت فيه وقاره ، وأثنيت على هيبتهِ ، وقد سقط كلُّ ذلك منه ، فتمايلت قامته السامقة ، الوقورة تمايل غصنِ بانٍ تتلاعبُ به الرِّيح ، وتراقصت أكتافه ، تراقص الرّاقصةِ ، الغيداءِ وقد نفضت حياءها ، وأسقطت رداء العفّة عنها ..!! وإذا بك تسأل ماذا حلّ بالرّجل؟! هذا القويُّ المراس ، صاحبُ البأس والشكيمةِ ، يتململ تململ الأنثى اللّدنة ..! وقد رأيتُ في أحد الأعراسِ رجلاً أخفى وجهه عن الجمهور حتى لا تُعرف هويّته ، يرقصُ رقص النِّساءِ ، في ميوعةٍ وليونةٍ ، حتى جاءَ من كشف أمرهُ ، وناداهُ باسمه ، فانتفضَ هارباً من الحشد ..!! فأين هزّ هذا من قول الشاعر:

وإن هزَّ لدن الرُّمحِ ، غصنَ قوامه
فكلُّ دمٍ فيهم إلى قدّهِ صب

إن الرّجلَ ليفقدَ سماتَ رجولتهِ حينما يبالغُ في التّعبيرِ عن فرحه بتأديةِ رقصاتٍ تثيرُ الاشمئزاز ، وتُخرجهُ من دائرةِ الرُّجولة ..!! وإن المرأةَ لتفقدُ حياءها الأنثويِّ الجميل ، الذي يعدُّ أصل جمالها ، حينما تنفلتُ من إسارِ الحشمةِ في تعبيرها للفرح .. ! إنهما ليفقدانِ التّركيزَ بحجِّةِ الفرح ، فتنطمسُ عنهما حقيقةَ الأشياء ، فيصدقُ فيهما قول الشاعر/علي محمود طه:

روحي المقيمُ لديكِ ؟ أم شبحي ؟

لعبت برأسي نشوةُ الفرحِ ..!!

وها نحنُ نرى أن تقليعاتٍ جديدةٍ تظهر على بعض الشِّباب وهو يعبّرون عن أفراحهم ، لا تمتُّ لثقافةِ مجتمعنا بصلة ..!! شبابٌ يستُرُ وجهه كي يأخذ مساحتهُ من ممارسةِ الشكلِ الذي يريدُ من الرَّقص ..!! ولو أنّه كان يعبِّر بالفرحِ الرّزينِ عن مشاعره لما أخفى وجهه ، ولما تقنّع بقناعٍ بغيض ..! إنّما كان يُدرك بأن ما سيأتي به منبوذٌ اجتماعيّاً ، وأن أسرتهُ لن تسرُّ برؤيتهِ وهو على هذه الحالةِ من التعبير غير الأخلاقي ..!! ولكن ما بالك بأسرٍ يسرّها رؤيةُ ابنائها وهم يحترفون الرّقص الشّاذِّ ، فرحون بهم وهم يشاهدونهم يرقصون وكأنّهم يشاهدون ابناءهم وقد أحرزوا سبقاً علميّاً ، أو ختموا القرآن، أو نالوا جائزةَ نوبل، أو حصلوا على منجزٍ علمي ..!! شبابٌ لا يدركونُ أن للفرحِ حدود، وله آدابِ، وأنّه ليس مطلقاً بلا حواجز ..!! حتى أن بعضهم ليظنّون أنفسهم وهو يقلّدون المغني الأميركي البائس "مايكل جاكسون" في حركاته فرسان حلبة، وصناديدُ ميدان ... وما هم إلاّ تسليةً للنّاسِ، ومضيعةً لوقتهم..!!

لا شيء يبرِّر ما يأتي به الإنسانُ من حركاتٍ غريبةٍ ، وأفعالٍ شاذّةٍ ، خارجةٍ عن حدود اللّياقة الاجتماعيّة ، وناشزةٍ عن أُطرِ الأعرافِ والتقاليدِ. لا منجزَ يبرّر إشاراتِ الأيادي التي يجهل معناها الكثيرون وهي ترمزُ إلى معتقداتٍ شاذَّة ، ومذاهبَ شيطانيّة ..!! إن من هذه الإشارات التي يرفعها بعض الشباب رفع إصبعي الخنصر والسبّابّة ، وهي إشارةٌ ترمزُ إلى قرنيَّ الشيطان وتردُّ إلى مذهبٍ ماسوني شاذ فكراً ومعتقداً..!! وإذا كان المجاهدُ المسلمُ يرفعُ السبّابة والوسطى ليقول : إمّا الشهادةُ أو النصر ..فلماذا يرفعها الكثيرون عندنا ، هل ليقولون : إمّا النصر أو الهزيمة ..؟!! ها نحنُ نرى بعض الجماهيرِ الرّياضيّةِ وهي تحتفلُ بانتصاراتِ فرقها لا تحسنُ إبداءَ الفرحِ ، ولا إظهار التعابير عنه .. ؟! وبعضها يخترعُ قصّاتَ شعرٍ غريبةٍ من أجلِ الظهورِ بمظهرٍ مخالف على شعار "خالف تُعرف" وما يفعل سوى الإساءةِ إلى نفسهِ ، وتحقيرِ مظهره ، وليسَ في الحقيقةِ تعبير عن المؤازرةِ ، ودليل على المساندة ..! فالمؤازرةُ والمساندةُ ليستا في قصّاتِ الشعرِ ، ولا التقليعات الغريبةِ ، ولا الحركات المستهجنة ، وإنّما في التشجيعِ الحضاريِّ ، والمنظّم ، الرّزين..!

إنّنا ونحنُ نتابعُ بعض المهرجاناتِ ، ونمرَّ على ما يتخلَّلها من حفلاتٍ غنائيَّةِ ، ليلفتنا الشّابَ السّاترَ وجهه وقد شرعَ في ميوعةِ الرّقص ، مسلّماً جسده للطربِ حتى غدا يهتزُّ اهتزازَ السّيفِ في زندٍ صارم ..!! وليتهُ كذلك إنّما يبارزُ بعض الرّاقصاتِ في رقصهن ..! ونرى المسدلةَ خمارها على وجهها وقد ذهبت هي الأخرى في نوبةٍ هستيريَّةٍ من الرّقص ، ولا فرق بين الإثنين .. وكلاهما نشاز..!!

إن بعض الفرحِ جميلٌ إن كستهُ الرّزانةُ ثوباً ، والرّصانةُ معطفاً .. لكنَّ بعضه ليخرجُ عن حدودِ اللياقةِ ، والأدبِ ، والخُلق ، فيصبحُ فرحاً مستهجناً لا يرتبطُ بأصولِ مجتمعاتنا وتقاليدها بصلةٍ تُذكر ..! وها نحنُ نرى أيضاً أن لاعبين رياضيين حينما يُحرزون أهدافاً يأتون بحركاتٍ هستيريَّةٍ ، غريبةٍ ، تخرجهم عن حدود الخُلُق ، وتُسقطهم من عيونِ محبِّيهم ..! إنّما بعض العقلاءِ منهم والرُّشداء يستغلّون هذه المناسبة فيحملون رسائل إنسانيّةٍ أو وطنيَّةٍ ، فإذا ما أحرزوا هدفاً وعرفوا أن العدسات تتوجّهُ لهم ، أبانوا عن رسائلهم الجميلةِ ، وهم يعبّرون عن الفرحةِ برزانةٍ لا يخلو منظرها من روعة ..! يقول الشّاعر:

مظاهر للجمالِ تجلّى
قد هزّ أعطافها السرور
وباهرُ الحسنِ قد تجلّى
ما بين نورٍ ونـــــور

الفرحُ الهستيريُّ خرابٌ للنَّفسِ ، ومضيعةُ لجماليةِ الفرح ، وما إتيانُ بعضُ الشبابِ بحركاتٍ لا تمتُّ إلى طبيعتهم الرجوليّةِ كهزِّ خصورهم إلاّ صورةٌ من هذه الصور المنبوذةِ التي لا يجبُ أن تُبرّر بحجَّةِ الفرح ، ولا يجبُ أن يسلّط عليها الضُّوء ، فالمجتمعُ ثقافةً وهويّةً يبرزُ في مثل هذه المناسبات ، ويظهرُ في مثلِ هذه التعابير .. فتلك التعابيرُ مذمومةٌ ، والقرطبي يقولُ في تفسيره ، إنَّ المرحَ هو شدَّةُ الفرح ، وفيه يقول الشاعر :

وَلَا تَمْشِ فَوْق الْأَرْض إِلَّا تَوَاضُعًا
فَكَمْ تَحْتهَا قَوْم هُمُو مِنْك أَرْفَـعُ
وَإِنْ كُنْت فِي عِزّ وَحِرْز وَمَنْعَـة
فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْم هُمُو مِنْك أَمْنَعُ

صالح الفهدي


م.ن

من الإيميل .