مقال أعجبني بقلم الكاتب العزيز سقراط فوزي
احببت ان تشاركوني به
***
في إحدى زياراتي للبنان وأثناء سيري في إحدى القرى لمحت جسما غريباً
مدفون بين الأعشاب، ولما اقتربت منه فوجئت بسلحفاة أكبر قليلا من حجم
الكف، وبلا تردد أخذتها إلى حيث أقيم، بل وقررت أخذها إلى بلدي حين عودتي.
كنت قد اشتريت عدة كتب وضعتها في كيس من النايلون ثم وضعت السلحفاة
فوقها ودخلت إلى نقطة الجمارك، وعندما سألني الشرطي عما يحتويه هذا
الكيس، أريته ما بداخله وقلت بأنها كتب.. وسلحفاة!
فانتفض الشرطي وتراجع للخلف وقال لي أوكيه أوكيه وأشر لي بالعبور مظهراً
خوفه منها، ففوجئت من تصرف هذا الشرطي، ولم يخطر في بالي أن يخاف
إنسان سلحفاة مسالمة، وهكذا دخلت صالة الانتظار وجلست وقلبي على سلحفاتي.
لكن موعد إقلاع الطائرة تأخر ساعة فطلبوا منا الخروج من الصالة، وهكذا كان.
لكنني تشاءمت من هذا التأخير وخشيت على سلحفاتي، وبعد مرور نحو من
الساعة سمعنا النداء للمرور عبر الجمارك لدخول صالة السفر الأخيرة، وهكذا
فعلت لأجد أمامي نفس الشرطي الذي ما أن رآني من بعيد حتى أشر علي وكأني
أحمل قنبلة وليس سلحفاة، فضحكت في قرارة نفسي.
لقد عاشت معي نعمت - وهو الاسم الذي أطلقته عليها- بعيدا عن بيئتها الجبلية
الخضراء حوالي السنتين قبل أن تنفق، ولا يعلم سوى خالقها عما كانت تشعر به
بعيداً عن بيئتها على الرغم من محبتي وعطفي واهتمامي الفائق بها.
وتمر السنين وأنا لا أنسى نعمت.. حتى جاء أحد مواسم الصيف الماضية، عندما
كنت أعبر مع بعض أصدقائي الجبال الخضراء لنجد أمامنا سلحفاة تحاول عبور
الطريق المسفلت.. وما أن أوقف صديقي السيارة حتى ركضت إليها وتناولتها
وأنا أحدق إلى رأسها الذي حاولت إخفاءه أولاً لكنها ما لبثت أن اخرجته
بعدما أنست بي.
الغريب أن هذه السلحفاة تشبه نعمت وفي نفس حجمها، ففكرت بأخذها
وإبقائها معنا طوال رحلتنا هذه، إلا من معي ذكروني بأنه يتوجب تركها في
بيئتها الطبيعية تلهو وترتع وتتكاثر.
فأخذت أقبلها مراراً قبل أن أضعها على جانب الطريق المعشوشب الذي
كانت ذاهبة إليه، ثم ودعتها بنظرات كلها حسرة لتنطلق بنا السيارة إلى
حيث كنا سائرين.
وبعد برهة تذكرت أن معي آلة تصوير فرجوت قائد السيارة بالعودة كي
ألتقط معها بعض الصور.
فعدنا من حيث تركناها وهي مسافة لا تزيد عن المائتين من الأمتار، لكن
على الرغم من بحثنا عنها لم نجدها، فقد اختفى أثرها تماماً، كأنها فص
ملح وذاب، فلمت من معي لمنعني من أخذها معنا، وكأنني طفل حُرم من ضالته.
ذكرني بهذه الحادثة مزايدة كبرى جرت في اسطنبول على لوحة لعميد الرسامين
الأتراك الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر وهو عثمان حمدي بك.
وكان موضوع المزايدة الأهم هي لوحة كبيرة الحجم تدعى "مربي السلاحف"
وقد جرت منافسة شديدة بين بيتين للمتاحف الخاصة تملكهما عائلتين من
أكبر ثلاث عائلات ثرية في تركيا.
لكن قبل الدخول في تفاصيل هذه المزايدة يستوجب الذكر بأن فن الرسم لم يكن
شائعاً في البلاد العثمانية بسبب النظرة الدينية له، وكان فن الرسم المباح آنذاك
هي رسومات المينياتورالتي تزين الكتب وتقتصر على رسم ذوات الأرواح من
غير عمق أو ظلال كي لا تتشابه مع مخلوقات الله.
ويمكن التخمين بأن سبب تطور فن الخط العربي عند العثمانيين ووصوله إلى
أعلى الذرى هو التركيز عليه تنفيسا لمن يملكون ملكة وموهبة الرسم. هذا
وعلى الرغم من أن بعض السلاطين العثمانيين كانوا غير متمسكين بهذه النظرة
الدينية داخل القصور التي كانت تزدحم أحيانا برساميي أوروبا الذين أبدعوا في
رسم السلاطين وبعض الرسومات الأخرى.
وعندما اقترب القرن التاسع عشر من نهايته، قام رجل هو ابن باشا اسمه
عثمان حمدي بك بإنشاء دار للفنون تعني بفن الرسم، وكانت رسوماته محط
إعجاب الكثيرين في البلاد العثمانية، ومن خلال هذا الرجل تم إرساء فن الرسم
على الأصول الأوروبية، وتتلمذ على يديه الكثيرين من أصحاب المواهب.
ولهذا الرسام لوحات كثيرة، لكن أشهرها لوحة ذات أبعاد كبيرة لمربي السلاحف.
وتمر الأيام ويمتلك أحد البنوك هذه اللوحة، إلا أنه القدر كان لهذا البنك بالمرصاد،
فقد أفلس وسط موجة إفلاس البنوك الكثيرة التي غمرت البلاد قبل عدة سنوات.
فكان أن وضعت الدولة يدها على ممتلكات البنك حفاظا على حقوق مودعيه،
وجاء اليوم الموعود لإجراء مزايدة لعدة لوحات يمتلكها البنك المفلس،
من ضمنها هذه اللوحة.
كان التقدير الأولي لها هو مليون ونصف دولار، وهو مبلغ غير معهود
للوحات الرسامين الأتراك، وبدأت الصحف وبعض محطات التلفزة تلقي
الضوء على هذه المزايدة والتنافس الشديد عليها، ليرتفع سعر اللوحة
وتباع بثلاثة ملايين ونصف من الدولارات.
وجدير بالملاحظة أن الاهتمام باللوحات والقطع الأثرية قد ازداد كثيراً في هذه
البلاد في السنوات الأخيرة، وأحد الأسباب هو ازدياد أعداد أصحاب الثروة،
الذين وجدوا امتلاك اللوحات والقطع الأثرية سبيلاً استثمارياً لأموالهم الفائضة.
وقد لفتت نظري هذه الظاهرة وشممتها بأنفي الحساس في بداياتها الأولى، حيث
بدأت أبحث عن لوحات للرسامين العثمانيين في الدول التي أزورها، ومع ذلك
لم يحالفني الحظ لتاريخه.
بيد أنني أوصي كل من لديه الفرصة والوقت والمال الفائض بالبحث عن لوحات
الرسامين العثمانيين، وأنا على ثقة بأن من يجدها يستطيع أن يبيعها في تركيا
بأضعاف مضاعفة، خصوصاً بعد ازدياد الهوس الفني عقب الشهرة التي أحدثتها
لوحة مربي السلاحف.