بسم الله الرحمن الرحيم
رحيل
ولد في جبال الضنك وأنهى الحياة، هناك، في براري الحمَّى حيث الفارق الطويل، الطويل ما بين البدء والانتهاء تختزله الثواني العشرين من آخر لحظة للوعي، ومن آخر عين أغمضت ثم أطبقت للأبد. كانت رحلته من مهد الحمى إلى براريها شهادة من هذه الحياة أنها قليلاً ما تعطي ونادراً ما تنصف. عاش حذراً وجلاً حتى لتخاله يقترب من حواف الخوف لشدة ولعه بالحياة. لم يكن يعلم أن الموت أحياناً هو مجرد المرور صدفة على متر مكتوب من هذه الأرض على بعد ألف كيلومتر.
ليلة البارحة فقط أكمل آخر مهمة ظن أنها الأولى لما سيأتي من بعد. زف ابنته إلى حياتها الجديدة. نظر إليها خلسة نهاية المساء وهي ترتب ثوب الزفاف. كان ثوباً أبيض مثل ثوبه الذي لف عليه اليوم ومن مفارقات الأبيض يبرز اللون في ذات اللون: لون للحياة والزفاف. هو ذاته لون الكفن.
هنا مشهد الموت وإرهاصة الرحيل: كانت الشمس عن يساره تكمل نصف الدائرة الأخير إلى الغروب. كان يتأمل مشهد الغروب الأخير مستهلكاً عشرين ثانية وعندها استحال الطريق إلى ثعبان. بدأت الأرض تميل من تحته حين كانت السيارة فجأة ترسم نصف دوائرها على الطريق. مالت لليسار نصف الدائرة. لليمين نصف دائرة معاكسة. للخلف وللأمام ولكل الفوضى وفي كل زاوية يقف ملك الموت رابط الجأش وكأنه ينتظر انتهاء الثواني العشرين. اشتد من حوله صراخ الأطفال وأنين الزوجة التي حاولت عبثاً أن تمسك بابنها وقد قذفته الدوائر، بعيداً بعيداً، إلى خارج المكان: طار للموت في منتصف نصف الدائرة الثانية. انتهى مشهد الدوائر. بحثوا عنه في كل الاتجاهات. كان في طرف الجهة المقابلة من الطريق يحاول أن يرفع صوتاً لم يعد له من حبال الصوت إلا اسم طفله الذي شاهده وقد طار إلى هناك: إلى الجهة الأخرى من الطريق. كان يحاول أن يرفع نحو ابنه عظام رقبة منهكة. كان يسرق نظرة حزينة من بين يدي ملك الموت إلى الأشلاء والأجساد التي تناثرت على حواف الطريق. كان يتمنى أن يستمع لجملة اطمئنان على هؤلاء الذين عاش لهم ومن أجلهم. غادر الحياة وكان في نفسه شيء من ماذا، وكيف، وأين، كان ينثر في المكان آخر عشرين ثانية من مشهد الغروب الذي غادره وفي عينه اليسرى منه دمعة ساخنة لم يسمح لها الوقت القصير أن تخرج.
علي سعد الموسى
الوطن