أنامل ناعمة تطرق أبواب المجتمع بقوة:أرحمونا بتطويق العنوسة
ارتفاع سن الزواج لدى الفتيات، أو تأخر الزواج أو بقاء أعداد كبيرة منهن بلا زواج أمر أصبح يهدد الأسرة المسلمة وكثيراً من المجتمعات، ومجتمعنا لم يعد بعيداً عن هذا الواقع - كما كان الأمر في الماضي القريب، بل ظل هاجس العنوسة يؤرق الآباء والأمهات، فضلاً عن آثاره السالبة تجاه نفسيات الفتيات.
التحقيق التالي يناقش قضية (العنوسة) أسبابها، مظاهرها، تداعياتها، إمكانية تجاوز النظرة السلبية تجاهها. فإلى تفاصيل التحقيق..
* الدكتورة نوف المديفر أخصائية اجتماعية تقول: الحديث عن العنوسة، يقودني إلى القول إن الفتاة منذ نعومة أظفارها، وهي تحلم كغيرها من البنات باليوم الذي ترتدي فيه (فستان الزواج) وتزف إلى من اختاره الله لها، تظل طوال سنوات الدراسة مستغرقة في حالة من الرومانسية، تسابق الزمن، حتى تنضج وتصبح عروسا، يطرق بابها (الخطاب) والراغبون الارتباط بها على سنَّة الله ورسوله. متمنية أن تكون زوجه وأماً وتدعو الله بكل جوارحها أن يعجل باليوم الذي يطرق فيه بابها (ابن الحلال). ولكن. . . قد تمضى الأيام والشهور والسنون، ويغدو الحلم عصياً وصعب التحقيق، ويصبح سرابا، وتنضم تلك الفتاة الغضة الجميلة إلى قوافل (العوانس) وتتبعثر جميع أحلامها وتصبح ذكريات أو كوابيس، تلك باختصار قصة كل الفتيات اللاتي حصلن على لقب عانس بعدما فآتهن قطار الزواج، وتجاوزن الثلاثين من عمرهن.. وهن ينتظرن الفوارس على خيولهم البيضاء والذين تخلوا عن الفروسية والخيول واكتفوا بالانترنت وبرامج (الشات) على شاشات الفضائيات. ومع مزيد من الأسف تصبح (العانس) مثار سخرية، ما يدفعها إلى محاولة التخلص من هذه الوصمة، وتقبل على زواج غير متكافئ، تحت شعار (ظل راجل ولا ظل جدار) اعتقاداً منها أنها حتى لو أصبحت مطلقة، فإن هذا يكون أفضل لها من أن تكون عانساً. وتضيف: أقول: لكل فتاة تأخر بها سن الزواج: يا ابنتي لا تشغلي بالك للناس، فالعقلاء والأسوياء يعلمون أن الدنيا أقدارٌ، فهناك مَن لم تتزوج، وهناك مَن تزوجت ولم تُوفَّق في الزواج، وهناك مَن تزوجت ولم تنجب، وكل هؤلاء لم يسلمن من ألسنة الناس، فالمنع ابتلاءٌ، كما أن العطاء أيضاً يمكن أن يكون ابتلاءً. وتضيف: كل من ينظر إلى العانس على أنها مسئولة عن وضعها وعدم زواجها فهو جاهلٌ أيّاً كانت درجته العلمية، فكل إنسان له قدَرُه المحفوظ عند ربه، فلا تقيمي وزناً يا ابنتي إلى هؤلاء، وليكن همك فقط الرضا بقضاء الله والشاعر يقول:
إذا ما وصلنا برب الكون أنفسَنا
فما الذي في حياة الناس نخشاه؟
توظيف الفراغ
وتنصح الدكتورة كلَّ فتاة تأخَّرَ بها الزواج أن تستغل فراغَها في طاعة الله، وتقول: ما دمت تعيشين فراغاً فاشغلي نفسك بحفظ القرآن وحضور حلقات العلم في المساجد فستجدين حلاوةً لا يمكن أن نصفها. . متِّعي نفسك بقيام الليل، وعلاقتك بربك ستُغنيك عن الناس، واعلمي أن أهلَ الابتلاء أقربُ إلى الله من غيرهم، فألحِّي على ربك بالدعاء في جوفِ الليل، والله سميع الدعاء، ولن يضيِّعَ دعاءَك إن شاء الله، وليكن دعاؤك: اللهم ما رزقتني مما أُحب فاجعله قوةً لي فيما تحب، وما حجبت عني مما أُحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب، والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"، ولا تشغلي فكركِ بعرض نفسك هنا وهناك، فالله أدرَى بما يُصلح عباده، إن كان التعجيل خيراً عجَّل لك، وإن كان التأخر خيراً أخَّر لك، {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11] .
قلق دائم
* الدكتور عبدالمجيد علي استشاري نفسي يقول: إن المجتمع يضاعف من معاناة المرأة العانس بكثرة الهمز واللمز والأمثال السخيفة، فنحن نحتاج إلى تعديل سلوكنا الاجتماعي، فلا بد أن يكفَّ الناس عن التدخل في شئون الآخرين. وينصح كلَّ فتاة تأخَّرَ بها الزواج بأن تدرك أن هناك فتياتٍ تأخر بهن الزواج لكنهن نجحن اجتماعيّاً نجاحاً باهراً، حتى إن كل من يعرفهن يسعى لجلب الزوج لهن ويثني عليهن بأجمل صفات، وهناك ناجحات في عملهن وعلمهن رغم تأخر زواجهن. وفي أحوال كثيرة يرجع التأخر في الزواج لعدم وجود علاقات اجتماعية كافية، فاخرجن إلى المجتمع والأقارب وأقدمن على العمل التطوعي للتعرف على الناس، وأظهِرن أنفسَكن للمجتمع وللآخرين ولكن بما يحفظ كرامتكن. . تريَّثي يا ابنتي في رفض مَن يتقدم لكِ؛ حتى لا تندمي على رفضك، فالعمر يجري بسرعة وما مضى لا يعود. . اهتمي بمظهرك بما يحفظ وقارك وبما يتفق مع الشرع، ولا تهملي نفسك وأناقتك. وعلى الإعلام أن يقدم نموذجاً لفتيات تأخر زواجهن، لكنهن راضياتٌ ناجحاتٌ في الحياة وغير معقَّدات، ويقول د.عبدالمجيد: الزواج مطلب ضروري، لكنه ليس نهاية العالم، يجعل الفتيات تشعر بالفشل والإحباط ثم الاكتئاب ثم الحالة المرضية. ويضيف:أن العنوسة تجعل الفتيات في قلق دائم، حتى قبل بلوغهن الثلاثين، مما يسبب بعض الأمراض النفسية التي تشتد حدتها مع تقدم العمر، و"يساهم المجتمع لحد كبير في ترسيخ الأمراض النفسية المختلفة من خلال تبنيه وجهة نظر سلبية عامة موجهة ضد من لم تتزوج، فيما تقل هذه النظرة بالنسبة للرجل غير المتزوج" ويقول: البنت غير المتزوجة في عمر متقدم تعيش ألم الحياة في كل دقيقة ولكن هناك لحظات وأوقات يكون فيها الوجع أكبر، مثل: زواج صديقة أخرى لها وإحساسها بأنها باقية وحدها والقطار يأخذ الجميع إلا هي. مولد طفل جديد في العائلة يحرك أمومتها ويشعرها بالحرمان. ذكرى يوم ميلادها وهو يضيف كل عام سنة جديدة كالمطرقة على إحساسها تخبرها بأنها أكبر وهذا يعني أنها أقل حظاً في الزواج. الإعلام العصري بندواته وأبحاثه وأفكاره وبحسن نية يطارد البنت غير المتزوجة ويعرض مشكلتها طبعا، النية الصافية في طرح الموضوع هي وراء ذلك لكن البنت تتعب نفسياً وهي تفتح مجلة لترى موضوع العنوسة، تسمع رأياً في الراديو عن العنوسة، التلفزيون والندوات - كلها مرايا تخبرها بوجعها. كل نهار فيه لهث. . يأتي وراءه ليل. . الليل سكون، خلود، ومخدة، وفراش. . والبنت غير المتزوجة. . كل ليلة حين تخلد في غرفتها، وفراشها وحدها تكون في مواجهة مؤلمة مع واقع عمرها.
مفهوم العنوسة
* الدكتور عبد الله اليوسف أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يقول: "يجب أن نحدد أولاً مفهوم العنوسة، لكي نناقش القضية بشكل جيد، فليس هناك سن محددة للعنوسة، لكن ثقافة المجتمع والرأي الذي يتفق عليه المجتمع هو المحدد لذلك"، وأشار إلى أنه كان سن 16 سنة أو 17 في فترة من الفترات هو المفضل لزواج الفتيات، إلا أن الناس اليوم لا تعتبر مثل هذه السن مناسبة، حيث تعد الفتاة صغيرة جداً، فالمجتمعات تتغير، لذلك لابد أن تتغير الرؤية للعنوسة ومفهومها.
وأضاف "الآن تعتبر السن المناسبة لزواج الفتاة ما بين سن الخامسة والعشرين وسن الثلاثين، وإذا تجاوزت سن الثلاثين نستطيع أن نقول إنها دخلت في مرحلة العنوسة، وإذا صحت المعلومة أو الإحصائية التي تشير إلى وجود مليوني عانس فهو رقم كبير ومخيف ومقلق ومؤشر على وجود إشكالية إما في قنوات الزواج أو إمكانيات الزواج أو حتى في نظرة الفتاة للزواج وقبولها له"
وبيّن الدكتور اليوسف أنه يجب أن نتساءل.. ما قنواتنا في الزواج؟ هل نحن مع التغير السريع في شتى نواحي الحياة، حتى نستطيع أن نسهل الزواج للشباب؟ الأمر الآخر في القضية هو أن الفتاة أو الشاب قد تكون نظرتهما للزواج مغلفة بمبالغة في الرومانسية، نظرة مثالية من أحد الطرفين وقد تعيق الزواج. ويضيف: "البطالة من العوامل المساهمة في تفشي العنوسة، فإذا شاعت البطالة في المجتمع، فهي تنعكس على إمكانات الشباب للزواج، أيضاً المبالغة في تكاليف الزواج كالحفلات والمستلزمات الكمالية التي تجعل الشاب يفكر أكثر من مرة قبل أن يقدم على الزواج، وأضاف أن كثرة الطلاق قد تجعل بعض الفتيات يتخوفن من هذه التجربة، حتى أصبح الزواج لدى البعض منهن لا يمثل الاستقرار، وبالتالي يفضلن عدم الزواج. واستبعد أن يكون لعمل المرأة دور في تفشي العنوسة وقال "أعتقد أن عمل المرأة ووجود دخل مادي ليس سبباً لعزوفها عن الزواج، ولكن قد يسرق الوقت من الفتاة بحيث تنشغل بتحقيق بعض طموحاتها أو بالبحث عن زوج معين في نظرتها المثالية، وتتسرب منها الأيام، ثم تقل فرصها في الزواج" ويقول "آليات المعرفة بالزوجة المناسبة من قبل الرجل في ظل التوسع العمراني أصبحت معدومة، صحيح هناك مؤسسات برزت أخيراً لتساعد على ذلك، ولكن إذا لم تكن الفتاة من محيط الشاب، فقد لا يعلم عنها في ظل التوسع الحضري، لذلك نحتاج إلى آليات في ضوء التقاليد والشريعة الإسلامية لمعرفة الشباب للفتيات المناسبات في ظروفهم عن طريق مؤسسات متخصصة"
وتطرق الدكتور إلى دور تعدد الزوجات في القضاء على العنوسة وقال إن تعدد الزوجات أيضاً من الحلول التي يمكن أن تقلص نسبة العنوسة، لذلك يجب أن تنظر الفتاة للموضوع بعقلانية، وألا توقف نصيبها بحثاً عن زوج غير متزوج، وتكون مستعدة للتنازل لكي تكون أسرة حتى لو مع زوج معدد.
وقال اليوسف إن العنوسة بحاجة إلى دراسة حتى تعرف أسبابها، ومن ثم توضع لها الحلول المناسبة، وناشد الجامعات السعودية والمراكز البحثية بدراسة هذه الظاهرة وتمنى أن يبادر أحد مراكز البحوث الوطنية في إحدى الجامعات لتبني هذه الظاهرة ويجعلها ضمن البحوث الوطنية، كبحث وطني مدعوم وبالتالي يدرس بشكل كبير.
مسؤولية مشتركة
* الدكتور إبراهيم بن مبارك الجوير أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: يرى أن العبرة في الأسباب التي أدت إلى تأخر سن الزواج لدى الفتيات، فهذا الموضوع يختلف من وقت إلى آخر، فقبل 30 سنة كانت هناك أعمار إذا تجاوزتها الفتاة يطلق عليها عانس، وما كان يعتبر تأخراً عن سن الزواج في زمن مضى لا يعتبر كذلك في الزواج في زمن آخر. ويؤكد أن من العوامل التي أدت لتأخر سن الزواج التعليم والعمل والسكن وأسلوب التربية وتحمل المسؤولية، لافتاً إلى أن الحديث لا يكون فقط عن الفتيات، بل هناك شباب يعتبرون متأخرين عن سن الزواج، لأن هناك عنصراً مهماً في العنوسة لدى الفتيات هو الرجل نفسه، فهو من يتقدم ويخطب ويبحث عن شريكة حياته، وبالتالي الفتاة تنتظر هذا القادم، لذلك لا نرجع أسباب العنوسة إلى الفتيات فقط، ولكن نلوم الشباب بالدرجة الأولى. ويشير د.الجوير إلى أن بعض الفتيات يرفضن المتقدمين لأسباب مختلفة، وهناك من تريد القادم لها قريباً من الصورة النمطية أو الصورة المثالية التي رسمتها بذهنها، وقد يكون هذا من تأثير الصديقات أو من تأثير الفضائيات أو القصص أو من تأثير الأسرة، ولكن لا ننكر أن تأثير الأسرة أصبح قليلا، حيث تترك للفتاة حرية القبول أو الرفض. إن التعليم يأخذ سنوات من سن الفتاة حتى تصل إلى 25 عاماً ولم تتخرج من الجامعة، ولا نعتبر هذه مشكلة، لأن المشكلة في الشاب نفسه الذي يمر بنفس المراحل من التعليم والبحث عن وظيفة، ثم تكوين نفسه، لكي يكون لديه استعداد للزواج، وفي هذه المرحلة يكون الشاب قد وصل إلى مرحلة الثلاثين، فيقابل تأخر الشباب عن الزواج تأخر الفتيات، مشيراً إلى أن تأخر الشباب والفتيات عن الزواج قد يدخلهم في العديد من المشكلات السلوكية والفكرية أو مشكلات إنجاب أو تربية بالنسبة لهذين الأبوين اللذين دخلا على الحياة الزوجية في سن متأخرة. ويشدد على أهمية التنازل عن بعض الأمور من قبل الفتاة كأن ترضى الفتاة في السنوات الثلاث الأولى بالسكن مع أسرة الزوج، فهذا لا يحمل الزوج أعباء اقتصادية كثيرة، أيضاً مسألة إيجاد فرص عمل للشباب، وتيسير عمل الطلاب، فقد يكون الطالب يمارس بعض الأعمال المنتجة التي تعود عليه بشيء من الدخل الجيد ويستطيع من خلال ذلك الادخار لتكوين حياة أسرية، ففي باقي دول العالم هناك طلاب يعملون في المطاعم وبالمكتبات وأعمال أخرى بنظام الساعة من دون أن يؤثر ذلك على دراستهم.
محددات الاختيار
* وأرجع أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الدكتور عبدالعزيز الغريب أسباب العنوسة إلى محددات الاختيار الزواجي في المجتمع التي تغيرت واختلفت، ومنها إكمال الدراسة إلى سن متقدمة، والرغبة في العمل أصبحت معياراً مهماً في اختيار الزواج، بالإضافة إلى أن زواج الشباب من الخارج يلاقي رواجا، لأنه يتيح فرصة لهم بالاختيار المباشر، والبطالة التي يعاني منها الشباب، والشروط والمواصفات التي يطلبها بعض الشباب في الزوجة، وعمل الفتاة ومستواها التعليمي وشروط الفتاة المعينة في اختيار الزوج، ووضع الأسرة الاقتصادي، فبعض الفتيات يعملن على إعالة أسرهن، وجشع بعض الآباء والمبالغة في اختيار الزوج، وعادات قبيلة مثل العضل والحجر، مشيراً إلى أن ارتفاع معدلات الطلاق دفع بعض الفتيات للتأني ورؤية الزواج على أنه غير مغر، إضافة إلى فرص الزواج القليلة وحصرها في الأقارب.
وطالب الغريب بتأهيل الشاب للزواج وتربيته على مفاهيم الأسرة وأهمية العلاقة الزوجية وتطوير نظام المساعدات الحالي الذي وللأسف ضعيف إن كان من الناحية المادية أو تنمية الجوانب المهارية للشباب والفتيات.
ويرى د. الغريب السبب الرئيسي للعنوسة إلى سوء استخدام الوسائل الإعلامية من متابعة القنوات الفضائية الإباحية والأفلام والإنترنت والبلوتوثات الفضائحية، إضافة إلى تراكم تكاليف الحياة المعيشية الباهظة، وشروط الأهالي من اشتراط استلام الأب لراتب ابنته، أو لرغبة الأب بتزويج بناته من أشخاص بعينهم، محذراً من نتائج العنوسة التي سببت انحرافات لبعض البنات ومتابعة للقنوات الإباحية، داعياً إلى إحياء عادة خطبة الوالد لابنته وبحثه للزوج المناسب لابنته.
لكم يا أهل العوانس!!
* الدكتور فيصل الحليبي يقول: في المنطقة الوسط لقضية العنوسة سوف أقف عدة وقفات، أجعل فيها الأسباب على جهة، والعلاج على جهة أخرى، متجاهلاً هذه أو تلك، لأن كلتا الجهتين قد نال حظاً وافراً من الحديث والبحث. . وبقيناً في المعاناة نفسها والواقع ذاته. . حينما تتوفر أسبابه ويصعب علاجه. . إنها الآن فتاة عانس. . وحسب. . أقرب الناس لها أهلها الذين يعيشون معها. . ويعايشون مأساتها، ويصلهم لهيبها بعد أن يحرقها. . دعوني أتطفل عليكم يا أهل العوانس لأتحدث إليكم في موضوع ذي حساسية بالغة فأقول لكم: بأنها ابنتكم فلن أكون حينها أرقّ منكم عليها، ولا أعرف بأحاسيسها ومشاعرها منكم، ولكنها محاولة في تخفيف همها، وتسليتها عن غمها. . ربما يكون من المستغرب في التعامل مع هذه الفتاة أن نحذِّر من مزيد العطف والإرضاء لها بما يميّزها عن أقرانها في الظاهر؛ لأن هذا النوع من التعامل سوف يذكرها بحالها التي تحاول نسيانه، ولا يعني هذا أيضاً ألا نعوّضها شيئاً من الحنان والرعاية اللتين تنشدهما كأقرانها المتزوجات، ولكن بطريقة تلقائية غير متكلفة.
الجود الخُلقي
وإن من أسهل الأشياء وأكثرها أثراً في نفس هذه الفتاة هو الابتسامة المشرقة التي يجب أن تستقبل بها أو تودّع، بها تنسى أحزانها، وتستقبل بها ساعات أكثر أملاً وسعادة، فكيف لو أُلحقت هذه الابتسامة بسؤال عن حالها وصحتها وما فعلته في دراستها أو عملها أو نحو ذلك، إنها بلا ريب ستشعر بأن قلوباً صافية أخرى قد انضمت إلى قلبها ليحمل عنه شيئاً من همومها. والحياة الزوجية التي تفتقدها العانس لا تخلو من أخطاء ترتكبها الزوجة، غير أن الزوج ربما تغاضى عن زلاتها وعفا عن أخطائها؛ لتسير دفة الحياة بمزيد من الحب والألفة، والزوجة لا ريب تجد لذة في هذا الإغضاء، وذلك العفو؛ لأنها تقيس به مكانتها في قلب زوجها وحبّه لها. . بمثل هذا التعامل يجب أن تُعامل العانس. . بل بأحسن منه وأكرم؛ لأن الجود الخلقي في التعامل مع العانس مبرّأ عن حظوظ النفس ورغباتها، ولأنها حينما تحس بفقدان ما يكون سبباً للعفو عنها من التودّد القريب من نفس الزوج تزداد لوعتها وحنينها إليه، وإذا كان غضّ الطرف عن الخطأ سجيّة العظماء والقادرين مع الناس أجمعين فلأن يتعامل به مع أحوج الناس إليه أبلغ في العظمة وكمال الشخصية.
هدية جميلة
ومفاجأة العانس بهدية جميلة لمناسبة ما أو بدون مناسبة، أمر سينقُش في خاطرها المكلوم ذكريات تفيض بالمحبة لمن حولها، وتجعلها معهم أكثر صفاءً ونقاءً، ولو أنك اطلعت عليها وقد تفردت بهديتك الكريمة فسوف تجدها تردّد النظر إليها بين الفينة والأخرى، وتطيل التأمل فيها، وربما ضمّتها إلى صدرها، ولهج لسانها بالدعاء الصادق لمهديها إليها. وقل مثل ذلك في كل أمر حسي تخصّ به هذه الفتاة كوجبة عشاء تحبّها أو حلوى تستلذها، أو حاجة كانت تسأل وتبحث عنها فيوفرها أحد أهلها لها، الأمر الذي سيترك حتماً لمسات حانية على فؤادها، تكون ثمارها الفرحة والبهجة على محيّاها وقلبها. ويا له من يوم سعيد على هذه الفتاة حينما نفرّحها بطلب مشاركتنا في رحلة خلوية أو سفر قريب، ليكون لها نصيب من المتعة المشتركة، والنزهة الخارجية، إنه يوم لن يُنسى، وساعات ستبقى. ولفتة جميلة من أهل العانس ينبغي أن يمكنوها من الاستمتاع بها، وهي فسح المجال لإمتاع أطفالهم وملاعبتهم وتوجيههم والحديث إليهم، وعدم ردّ هداياها لهم، ولو تكررت منها؛ لأن في هذا محاولة لإشباع روح الأمومة التي فُطرت عليها. كما أن على أهل بيت العانس أن يتجنّبوا - بطريقة طبيعية- الحديث عن أخبار الفتيات اللواتي خطبن قريباً أو أوشكن على الزواج؛ لأن هذا ربما أثار أشجانها، وأعاد إليها أحزانها.
أمانة عظيمة
ونحذِّر بشدة من أن نمكّنها من إثارة مشاعرها الإنسانية، وذلك بتوفير كل ما فيه اطلاع على الجنس ومثيراته بكل أصنافها من قنوات فضائية لا ترعى لفتاة حشمة ولا حياءً، أو غرف الدردشة الملغومة بالمغريات عبر شبكة الإنترنت، أو المجلات التي تغريها بالفتن وتحببها لها، فهي أمانة يجب أن تُرعى، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخاري. ولا يعني الاهتمام بخاطر العانس أن نعين الفراغ القاتل على نفسها، بل يجب توفير كل ما فيه نفع لها، وذلك بفتح آفاق الثقافة والإبداع لفكرها، من أجهزة مساعدة لذلك كجهاز الحاسوب والمسجل والكتب المفيدة والمجلات النافعة والأشرطة الطيبة، أو حثها على الاشتراك في المناشط المفيدة المختلفة، كالدورات العلمية بكل أصنافها الشرعية وغيرها، ومراكز تحفيظ القرآن والجمعيات الإغاثية ونحوها، يحفّ ذلك كله إشراف مباشر على ما تنتجه من عمل، وما تقدّمه من خدمات لنفسها ولأمتها، ويراعي من يقوم على ذلك مزيد التكريم لها والتشجيع والمكافأة على ما تبذله من عطاء، وما تقدّمه من إبداع، لتبحر سفينتها بأمان دون سآمة أو ملل. ولنتذكر أخيراً حديث عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أنها قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئاً غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْراً مِنَ النَّارِ) رواه البخاري.
إحساس مؤلم
وتقول منيرة (03 سنة) جامعية: لن تختار الفتاة العنوسة إذا توفرت لها خيارات أفضل، ولكن هذا قدرنا. فأنا أتضايق من نظرة المجتمع وأهرب منها لكني إنسانة لي مشاعر وتطلعات، فكم من شاب تقدم لخطبتي ولكن والدي يرفضهم لأسباب تافهة (هذا ليس من مستوانا. . هذا من قبيلة ثانية. . هذا لم يكمل تعليمه. . هذا والده كان فعل كذا وكذا. . ما ارتاح له. . هذا وهذا وهذا وذاك. . الخ) وفي النهاية أنا التي أتعذب، أرجوكم اخبروا والدي بما أعاني انه قد يجهل أنني أعاني من مشكلة كبيرة. . قد يدفع ثمنها في النهاية، ولا ألوم والدي وحده لأن هناك آباء ليس لديهم علم بما تحتاجه الفتاة أنني ألوم المجتمع بأسرة، أنكم تعذبون هذه الفتاة بنظراتكم وكلماتكم يجب على المجتمع تصحيح هذا المسار. . نحن البنات أيضا بشر وقد وصاكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا. . لأنهن أمانه لديكم، وهن أضعف منكم… وتضيف: تعلمون ما أعاني من أمور نفسية واجتماعية كبيرة وتقول اعلموا أيها الآباء أن (العنوسة قاتلة) أقول ذلك بعد أن فاضت بي السبل في إيجاد حل لمصيبتي، والتي هي مصيبة كل فتاة تعيش مشكلتي. . شبح العنوسة، يخيم على حياتي، بل إنه أطبق على أنفاسي، فما عدت قادرة على التنفس….
نظرات قاتلة
* مشاعل أبلغ من العمر (37 سنة) أعاني من الوحدة منذ سنوات وأحقد على كل إنسان سعيد. . هذه مشكلتي والسبب أهلي والمجتمع الذي أعيش فيه.. أنا أكره أخواتي فعلاً من قلبي. . عندما تزورنا واحدة منهن أشعر بالضيق. . لا أطيق رؤيتها أو رؤية أطفالها، وأحياناً أضرب الأطفال بقوة لأني محرومة من الأطفال ومحرومة من السعادة. . لقد تزوجت أخواتي جميعهن وهن أقل مني جمالاً وأصبحت كل واحدة تعيش مستقرة مع زوج وأطفال، وأنا أعاني من الوحدة والمجتمع لم يرحمني، ونظرات الناس تقتلني.. لم أعد أطيق أحدا.. أكره كل الناس. . أشعر بالتعاسة.. أريد أن أعبر لك عن الحياة التعيسة التي أعيشها.. أرى بنات أقل مني سناً بكثير وتعيش كل واحدة منهن سعيدة. . أنا جميلة ومتعلمة وذات أخلاق عالية.. لكن الناس حولوني إلى حاقدة على كل إنسان.. لا أحب أن أخرج للاجتماعات العائلية وأتهرب من المناسبات الاجتماعية.
* ريم (37 سنة) تقول: أشعر أنني محل شك الجميع، فمعارفنا يحذرون الكلام أمامي عن حياتهم الأسرية وعن أبنائهم، فهم يخافون أن أحسدَهم، وأنا أودُّ أن أصرخ فيهم: أرجوكم لا تسيئوا بي الظن، صحيح أنا عانس وأتمنى الارتباط بفارس أحلامي اليوم قبل الغد.. لكنني أبداً لا أحسد أحداً، لا أحقد على أحد، بل إنني أدعو للجميع بالسعادة وراحة البال.
لم الانتظار
سارة (41عاما) تقول: لم تجد وسيلة للهروب من واقع التفكير في مستقبل تكوين الأسرة المفقودة، وتعويض نقص الشعور بالأمومة، وأنا التي فقدت الأمل في تحقق زواجها، وتضيف: لست الصغيرة بين أخواتي ولا الكبيرة، جئت بين عدد من الأخوان والأخوات جميعهم تزوجوا حتى من هم أصغر مني وبقيت وحدي دون زواج. وأكثر ما يضايقني هو نظرة أخواني "أرى الشفقة في أعينهم، وأسمع همسات صديقاتي السلبية"، مضيفة "تزوجت كل صديقاتي، وبقيت وحدي" مشيرة إلى أنهن يصفنها بين بعضهن بـ"العانس" "كأنهن لا يعرفن بأني لم أختر أن أكون عانساً باختياري، بل كان قدري" ورغم أنها تبدو متماسكة إلا أنها تقر بمراجعتها لطبيبة نفسية، وتضيف "إن طول الانتظار والتفكير في الزواج، خصوصاً بعد أن تقدمت في السن سبب لي قلقاً نفسياً وأرقا، وبخاصة في أوقات الليل، إذ أشعر بضيق في التنفس، وما يزيد من خوفي هو بقائي وحيدة في غرفتي" واشعر بالحرج الشديد حين اسمع عن زواج إحدى قريباتها، "منذ صغري وأنا أحلم بالفستان الأبيض والأطفال لكني اقتنعت بأن هذا هو قدري الذي يجب أن أرضى به وأتعايش معه، فمن المعروف أن من لم تتزوج، وهي في العشرين أو على الأقل بداية الثلاثين من عمرها فلن تتزوج أبدا" وتضيف "لماذا يجب علينا أن نرضى بهذا الواقع، ونقبل أن نكون عانسات ينظر لنا على أساس دوني، ونحن لدينا المقدرة على الزواج وتكوين أسرة، ولدينا الرغبة في ذلك، يجب أن توجد حلول لإنقاذ آلاف الفتيات من مشكلة العنوسة التي لا يعرف صعوبتها سوى الفتاة التي تنتظر نصيبها لسنوات ثم تعيش اليأس والألم والانتظار"
قضاء وقدر
* نجلاء، تقول: "حلم كل فتاة مهما ارتفع مستواها العلمي والاجتماعي، أن تتزوج وتصبح ملكة متوجة في منزلها الخاص وتعيش حياة الأمومة التي خلقت من اجلها، لكن هذا الحلم الكبير يتحول إلى كابوس مزعج إذا لم تلحق بقطار الزواج لتصبح عضواً في حزب العنوسة، وبالتالي تصبح متهمة من قِبل المجتمع الذي تنتمي إليه، إما بالقبح الشكلي أو بثقل الدم، ومن هنا تميل كل فتاة إلى الزواج حتى لو لم يكن متكافئاً ثم الطلاق للهروب من فخ العنوسة وتضيف: "يعتبر العرف الاجتماعي، دافعاً لكل فتاة لتفضل صفة مطلقة على صفة العانس، بالرغم من مرارة كلمة الطلاق وانه ابغض الحلال عند الله، فالمرأة العانس تعيش عمرها وهي مطاردة بالشعور بأنها امرأة غير مرغوبة، ومحرومة من الرباط المقدس الذي أحلّه الله، وتعاني من نظرة المجتمع لها ومن الحرمان من الشعور بالأمومة والاستقرار الأسري، لهذا أصبح من المنطلق الاجتماعي لقب المطلقة أفضل من لقب العانس"
* منى (معلمة ثانوي) تقول: "كلمة العنوسة لا تسبب لي إشكالا، لأنني أنظر لهذا الأمر من منظار القضاء والقدر، وطالما أنني استطعت أن أكون ناجحة في ذاتي وأسرتي ومجال عملي، فلا أعتقد أني بحاجة للزواج، فليس شرطاً أن يقترن النجاح بالزواج، فالكثير من الفتيات المبدعات حققن إنجازات عظيمة وهن غير متزوجات، وقد يكون الزواج عائقاً أمام تحقيق العديد من الطموحات" وتضيف "القعدة في الخزانة ولا زواج الندامة" وهي بذلك تفضل أن تظل من دون زواج، وتكون عانسا، بدلا من تجربة تندم عليها طوال حياتها.
* أما مي (39 سنة) فتقول: آلمني جدّاً أن صديقتي الحبيبة إلى نفسي وتوأم روحي خُطبت ولم تخبرني بخطبتها، بل إنني صُدمت عندما علمت أنها دعت كل صديقاتها إلى حفل زواجها ولم تدعني، وهي التي كانت لا تُخفي عني سرّاً، وعندما عاتبتُها على ذلك اعتذرت بلطفٍ وقالت لي: حقيقةً كنت مشغولةً جدّاً ولم أدعُ أحداً أمي هي التي تولت دعوة صديقاتي ولعلها نسيت أن تدعوك، وقد أخفت عني كل تفاصيل زواجها مع أنني كنت أتمنى أن أشاركها فرحتها، وتعتبرني أختها الكبرى التي تحب لها ما تحب لنفسها، لا أن تخاف مني أن أحسدها وتخفي عليَّ ما يسعدها!! وتضيف: أدعو الله أن يسلمها، وأن يتم زواجها على خير.
* تعترف حياة (موظفة 37) بأنها تمر بمرحلة العنوسة حاليا، ولا تعرف من المسئول، هل هو العصر الذي اقتضى أن تخرج الفتاة للتعليم والعمل، وأن يكون لها كيان مستقل وتختار شريك حياتها بإرادتها أم أن الأهل هم المسئولون بطلب مهور فلكية، مما جعل الأجنبية تسحب البساط من تحت أقدامنا؟ أم أن التعامل غير الجاد مع مشكلة تأخر سن الزواج هو السبب؟ أم أن تردد الشاب في الزواج بمواطنته خوفاً من تكبرها وغرورها هو السبب؟ لا اعلم من المسئول عن وضعي ووضع غيري من الفتيات، ولكن أعلم أنني وغيري ضحايا…
شيء من الأنانية
* ربا (فتاة جامعية لا تعمل على الرغم من أنها على مستوى عال من الثقافة). . تقول: عمري الآن ثلاثون عاماً ولم يتقدم إلي الشخص المناسب أو غير المناسب. حتى الآن باختصار لم يطلب أحد يدي على الرغم من جمالي وتعليمي. للأسف، شبابنا مازال يتصف بشيء من الأنانية؛ يريد الزوجة الصغيرة التي لا تعي شيئاً حتى ولو كانت جاهلة. لست ادري لماذا يخشى الرجل المرأة المتعلمة ذات الشخصية القوية… أريد زوجاً يحترم بيته ويقدس حياته الزوجية، أريد رجلاً أشعر معه بالأمان. ولا اطلب أكثر من رجل يشعرني بقيمتي بصرف النظر عن مستواه الأكاديمي أو الاجتماعي. الزواج ستر للبنت والشاب.. أهلي يزداد قلقهم يوماً بعد يوم، لكن لا حياة لمن تنادي. لكن كرامتهم فوق كل شيء. فماذا أفعل وأنا حبيسة الجدران؟… هل أعلن عن رغبتي في الصحف اليومية، أم اخرج إلى الشارع لأبحث عن زوج؟
* أبو عبدالرحمن (والد عانس) قال إنه بدأ يشعر بالقلق على ابنته الكبرى.. فقد بلغت ابنته الثلاثين من عمرها، وليس هناك أي مؤشر لزواج قريب.. أو بعيد. وهو كرجل يعرف جيداً نظرة الرجال إلى النساء.. متى تكون الفتاة مطلوبة للزواج، ولماذا؟ فهناك سن تكون البنت فيها كالوردة أو الزهرة أو كثمرة الفاكهة الطازجة، نضرة مزدهرة ينجذب إليها الرجال ويودون الارتباط بها، بعد ذلك تفقد نضارتها وجاذبيتها ويقل إقبال الرجال عليها، و(تنكمش) فرصها في الزواج (الجيد) الذي يتمناه لها أهلها.