بعد أن داهم التضخم الأسواق العالمية.. والمحلية..خبراء الاقتصاد :"التضخم" سببه المنتجون..ويـدفـع فــاتـورتـه المستهلكون!
الكثير من المصطلحات الحديثة والمتخصصة غزت عقولنا وألسنتنا، فليس من الضروري أن تناقش متخصصاً في الاقتصاد لكي يدور النقاش حول التضخم في المملكة، أسبابه، مخاطره، أفضل الطرق لتجاوزه.. فالحديث عن هذه الأمور بات اعتيادياً، وسط الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والغلاء المستشري، وقلّة الخبرة والثقافة.. لذلك فليس من الغرابة أن يحمّل زميل لك مسؤولية ارتفاع إيجار منزله على التضخم، أو أن يغمزك أحدهم بأنك ترتدي ثوباً رخيصاً بسبب "التضخم"، أو أنك تستخدم وقوداً أكثر للوصول إلى "ديرتك" بسبب التضخم!
لذلك.. بات من المهم اليوم أن نلقي نظرة عن كثب، على هذه "القضية" الاقتصادية، والتي قد تفاجيء البعض بأن لها فوائد وإيجابيات.. رغم كثرة السلبيات.!

ما حقيقة التضخم المالي
لن ندخل كثيراً في التفاصيل الاقتصادية التعريفية للتضخم، فرغم شيوع هذا المصطلح في المجتمع، وتردده على ألسنة الكثيرين، إلا أن رجال الاقتصاد أنفسهم، لم يجدوا له حتى الآن تعريفاً واحداً.. لأن للتضخم أنواعاً وأشكالاً، تختلف باختلاف السبب أو النتيجة.
لمحة بسيطة من قبل الدكتور غازي حسين عناية (أستاذ الاقتصاد الإسلامي والمالية العامة الإسلامية في الجامعات السعودية)، قد تكشف لنا بعضاً من هذا اللبس، وتوقفنا على حقيقة هذا المصطلح ودلالاته.
يقول الدكتور عناية: "الحقيقة أن كلمة التضخم تدل على معانٍ عدّة، ومفاهيم كثيرة منها:
* التضخم في الأسعار: ويحدث عندما ترتفع الأسعار ارتفاعاً غير عادي، وغير مألوف.
* التضخم في الدخل: يحدث عندما ترتفع الدخول النقدية للأفراد ارتفاعاً غير عادي، وغير مألوف. ومنها التضخم في الأجور والأرباح.
أما التضخم في العملة، فيشمل كل زيادة كبيرة، ومستمرة في النقود المتداولة في الأسواق.
وهناك التضخم في التكاليف: ويشمل الارتفاع الحاصل لاثمان عوامل الإنتاج السائد في أسواق السلع والخدمات"
فيما يعرّف الخبير الاقتصادي في الأسهم السعودية باسم الشمري، التضخم الذي حصل منذ فترة في السعودية بالقول: "التضخم بمفهومه المبسط هو زيادة الارتفاع في مستوى الأسعار عن معدلاتها الاعتيادية وهي ظاهرة خطيرة وقد أخذت تهدد مجتمعاتنا لما لها من انعكاسات خطيرة على نمط الحياة وعلى فقدان الأموال لقيمتها العادلة"

كيف ولماذا ينشأ التضخم في المجتمع؟
من الصعب جداً تحديد أسباب معينة للتضخم، الذي يولد أحياناً بسبب تغيرات داخلية، وأحياناً بسبب تغيرات خارجية، لذلك توجهنا بهذا السؤال إلى بعض المتخصصين في المجال الاقتصادي، للحصول على أقرب تصوّر للأسباب التي تؤدي لهذه الظاهرة. من بينهم الصحفي الاقتصادي نضال حمادية (المحرر في القسم الاقتصادي بموقع العربية نت)، والذي قال لمجلة (الدعوة): "نظراً لكون التضخم ظاهرة معقدة لها تشابكاتها الممتدة في ثنايا النظام الاقتصادي العالمي، فإن حصر وتحديد الأسباب المؤدية للتضخم يبدو أمراً صعب المنال، لكن ذلك لا ينفي إمكانية تقسيم هذه الأسباب إلى داخلية وأخرى خارجية. أما الداخلية فتتبع طبيعة الاقتصاد الوطني لكل بلد، وهي في حالة المملكة تتركز في تزايد معدل الإنفاق الحكومي وارتفاع المعروض النقدي (السيولة)، علاوة على تسارع النمو الاقتصادي الذي يحتم مزيداً من الطلب على المواد الأولية"
ويضيف بالقول: "من بين الأسباب الداخلية الملموسة توسع -وربما تساهل- المصارف في إجراءات الإقراض الاستهلاكي وتقديم التسهيلات الائتمانية للأفراد. ولا يخفى على المعاين لواقع السكن في المملكة، أن غلاء الإيجارات ساهم بشكل واضح في خروج التضخم عن مستوياته التاريخية، مع استمرار الاختلال في معادلة العرض والطلب على الوحدات السكنية، لصالح الطلب طبعا. بالمقابل، فإن التضخم يجد أمامه فرصة كبيرة "للانتعاش" عندما تتضافر الأسباب الداخلية، مع أخرى خارجية من قبيل تصاعد أسعار الغلال والمواد الغذائية، وانفلات أسعار الطاقة والمعادن من عقالها، إضافة إلى تراجع سعر صرف الدولار الأمريكي، وما يتبع ذلك من خسائر في قيم العملات المرتبطة به ومن بينها الريال. ولا يعني زوال بعض هذه الأسباب أو كلها أن التضخم سيختفي بين ليلة وضحاها، كما تخيل البعض وهم يراقبون تهاوي أسعار النفط"
استيراد التضخم
أما الدكتور فؤاد مرسي (المتخصص في علم الاقتصاد) فيركز في كتابه "التضخم والتنمية في الوطن العربي" على المصدر "الخارجي" في حدوث التضخم في غالبية الدول، وخاصة الدول العربية، ويقول: "إن ظاهرة التضخم التي تجتاح الوطن العربي، قد تولدت في جزء كبير منها نتيجة لاستيراد التضخم من الخارج"
ويوافقه الأستاذ باسم الشمري على "المصادر الخارجية" في التسبب بالتضخم في السعودية، ويقول لمجلة (الدعوة): "قد تكون أسباب التضخم لدينا أغلبها خارجية ومنها ارتفاع الأسعار عالمياً وذلك بسبب زيادة التكاليف وزيادة الطلب مع بقاء الإنتاج في كثير من المواد على مستوياتها. كما أن كثيراً من الدول المتقدمة رفعت الدعم عن المزارعين بناء على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية مما حدا بارتفاع أسعار السلع الغذائية. ويرى عدة محللين ربط العملة بالدولار والانخفاض الكبير للدولار أدى إلى فقدان الريال لقيمته الحقيقية، ويرون أيضاً أن ربطها بسلة عملات وهو ما اتخذته دولة الكويت سيؤدي إلى حل المشكلة"
من جهته يشير الدكتور غازي عناية إلى ارتباط التضخم بالأنظمة الاقتصادية الرأسمالية، التي يرى أنها وثيقة العرى، ويقول : "هناك علاقة وثيقة، وصلة قوية بين التضخم وبين الاقتصاديات الرأسمالية، على اعتبار أنه ظاهرة لصيقة بالاقتصاد الرأسمالي المتقدم، والأخذ في النمو على حد سواء. وينتهي تعدد الدراسات الفكرية الاقتصادية إلى حقيقة كون التضخم أمراً ضرورياً، ولا غنى عنه للاقتصاد بفرض نفسه مع استحداثات التنمية كظاهرة حتمية للتوسع النقدي تتمثل في ارتفاعات تضخمية في الأسعار، أو كوسيلة حتمية يهتدى بها في مضمار النمو الاقتصادي تتمثل في سياسة التمويل بالعجز في الميزانية"

الآثار السلبية للتضخم
كونها تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وانتشار الخسائر بين الناس والمؤسسات والشركات، فإن الآثار السلبية للتضخم لا يمكن أن نجملها في إطارات محددة، لذلك تتنوّع التصنيفات التي يشير إليها الأخصائيون الاقتصاديون حول تلك الآثار السلبية، ومنها ما يذكره الأستاذ باسم الشمري لمجلة "الدعوة"، ويقول: "إن ارتفاع الأسعار يؤدي بالنهاية إلى ارتفاع التكاليف والدخول في سلسلة مترابطة من الارتفاعات مما يؤثر سلباً على عوائد الشركات فنرى أغلب نتائج الشركات السعودية تشير إلى تراجع حاد في الأرباح نتيجة زيادة الأسعار والتكاليف وانخفاض هوامش الربحية، ذلك بالنسبة إلى الشركات السعودية مما يقلل جاذبية المملكة والمنطقة بشكل عام للاستثمار الخارجي الذي يبحث عن مواطئ أقدام ويتصيد الفرص الناجحة. أما على الأفراد فنتائجها أخطر بكثير كون الأفراد أقل قدرة على مواجهة تبعات التضخم فهو يؤدي إلى الانكماش وإثقال كاهل المجتمع بالديون لتغطية المصاريف التضخمية وعدم قدرتهم على الوفاء وتدني المستوى المعيشي للمجتمع بشكل عام وأحجامهم عن الاستهلاك"

تآكل الطبقة الوسطى
من جهته، يرى الصحفي الاقتصادي نضال حمادية، أن التضخم له آثار سلبية أكبر وأعمق في المجتمع، ويقول: " إذا عرفنا أن التضخم في أحد وجوهه السلبية عبارة عن غلاء مصحوب في الغالب بتراجع في مستويات الاستثمار والتوظيف، سَهُل علينا أن نتصور الانعكاسات الخطيرة التي يمكن أن تترتب على هذا "الداء الاقتصادي" عندما يتجاوز حدوده. ومن هنا فإن تداعيات التضخم تطال الجميع ولكنها تشدد وطأتها على الطبقات ذات الدخل المحدود، حيث يتجلى "ضعف المناعة" أمام صدمات الغلاء، وهو ما ينذر بتآكل الطبقة الوسطى التي تشكل القوة الدافعة للإنتاج والشراء في أي مجتمع"
ويضيف بالقول: "مع إن التضخم -ضمن المعدلات المقبولة- مؤشر من مؤشرات النمو الاقتصادي، فإن استمرار التضخم وتمدده يمكن أن يهدد هذا النمو بل وقد يحوله إلى ركود أو انكماش، وكفى بذلك شراً تستعيذ منه الحكومات والشعوب. أما بشأن التوظيف فهو مرتبط عموماً بعلاقة عكسية مع التضخم، إذ كلما زاد التضخم ضاقت المساحة المتاحة لتوفير فرص عمل جديدة، وربما تطور الأمر إلى تفشي موجة تسريح عامة تضرب مختلف القطاعات، في محاولة لتقليص نفقات الشركات والمصانع. وللارتباط الوثيق بين الاقتصادي والاجتماعي، فإن الانعكاسات المذكورة آنفاً تزيد من احتمال حصول تغييرات -ولو طفيفة- في منظومة القيم والأخلاق التي تحكم المجتمع، يمكن أن تصل إلى حد زعزعة بعضها راسمة لوحة فوضوية من الفساد الذي تختلط فيه موبقات الرشوة بالاحتيال، والاحتكار بالغش، والانحلال بالسرقة.. إلى آخر هذه السلسلة المدمرة"

سلبيات متوقعة وأخرى غير متوقعة
فيما يفرّق الدكتور يوسف شبل ضمن كتابه "أزمة الغلاء بين التحليل الاقتصادي والواقع السياسي" بين الآثار السلبية المتوقعة للتضخم، عن غير المتوقعة، ويقول: "عندما يضرب التضخم اقتصاداً ما فجأة فإن الآثار الرئيسية غير المتوقعة له تتلخص بالآتي:
يربح المدينون ويخسر الدائنون وبالتالي تتم عملية توزيع لجزء من الثروة من الدائنين للمدينين. وسبب هذه الخسارة هو فشل سعر الفائدة في التكيف صعوداً نتيجة لارتفاع الأسعار. ويمكن تصنيف الحكومة والتجار من الفئة الأولى (المدينون) في حين أن البنوك وسندات الحكومة من الجمهور هم من الفئة الثانية (الدائنون).
تتخلف الأجور عن المستوى العام للأسعار مما يؤدي إلى خفض الدخل الحقيقي لفئة العمال وأصحاب الدخول الثابتة وإلى زيادة أرباح أرباب العمل والصناعة نتيجة لازدياد الثغرة بين أسعار السلع المباعة والأجور المدفوعة"
أما الآثار المتوقعة فيحددها الدكتور شبل بما يلي:
نتيجة لهبوط القيمة الحقيقية للموجودات النقدية تبدأ عملية استبدال بين الموجودات النقدية والموجودات الحقيقية لصالح الأخير، لاتقاء خسارة متوقعة تصيب قيمة الموجودات النقدية، والمعروف أن الموجودات النقدية تشمل النقد، والودائع وكل ما يرتبط عليه بقيمة نقدية ثابتة في حين أن الموجودات الحقيقية تشمل العقار والأراضي والسلع على مختلف أنواعها والمعدات والآلات.
بالنسبة للمواطنين الذين لا يملكون أرصدة نقدية كافية لإجراء عملية الاستبدال فإنهم يلجوون عادة إلى زيادة إنفاقهم للحصول على سلع وخدمات أكثر نسبياً مما لو أخروا إنفاقهم لفترة من الزمن بسبب النقص في قيمة الأرصدة النقدية.

القيمة الحقيقية
ويضيف د. شبل: ترتفع أسعار الفائدة التي يفرضها الدائنون في السوق المالي نظير إقراض أموالهم لكي يحافظوا على القيمة الحقيقية. فمثلاً لو كان سعر الفائدة السائدة في لحظة زمنية معينة هو 8% وتوقع الناس والمؤسسات المالية ارتفاع الأسعار في الاقتصاد بمعدل 10% فإن سعر الفائدة في السوق يرتفع تلقائياً إلى 8.8%.
نتيجة لجميع عمليات التكيف التي أشرنا إليها فإن مستوى الأسعار يرتفع فعلاً في الاقتصاد"
ويختتم كلامه عن الآثار السلبية للتضخم بالقول: "إن التضخم هو بمثابة ضريبة على الموجودات النقدية التي بحوزة الجمهور والمؤسسات الاقتصادية. وكلما تحسنت المعلومات لدى هذه الفئات عن تطور سير الأسعار كلما أمكن اتقاء أخطار التضخم أو التقليل من آثاره الضارة. غير أن المشكلة تكمن أساساً بالنسبة لأولئك المواطنين الذين لا يملكون أرصدة نقدية كافية تتيح لهم إمكانية شراء موجودات حقيقية مثل العقارات والأراضي والسلع. فالبديل الآخر المفتوح لهم هو الحصول على حزمة أكبر من السلع والخدمات الاستهلاكية عن طريق الإسراع في معدل صرف أرصدتهم النقدية ما دام هؤلاء المواطنون يعرفون جيداً أن القيمة الحقيقية لأرصدتهم ستنخفض حتماً في السنة القادمة والسنوات التي تليها. على ضوء هذا التحليل الذي أكدته شواهد اختيارية عديدة سنأتي على ذكرها لاحقاً فإن مجرد اعتقاد الجمهور والمؤسسات التجارية بأن الأسعار سترتفع، فإن هذا الاعتقاد سيؤدي بالفعل إلى ارتفاع الأسعار نتيجة لعملية التكيّف التي أشرنا إليها"

هل هي شرّ مطلق؟
رغم هذه الآثار السلبية المتكررة، والتي يرى الكثير من الاقتصاديين أنها كالشر المطلق، إلا أن بعض رجال الاقتصاد ينظر إلى التضخم على أنه "وسيلة تنموية" تساعد في ارتقاء الاقتصادات العالمية، من بينهم الدكتور غازي عناية الذي يقول: "تنبع أهمية التضخم من حيث كونه ظاهرة، ووسيلة في آن واحد. ظاهرة تشكل عبئاً على الاقتصاد كعائق أمام استحداث التنمية فيه، ووسيلة تنموية تشكل دعامة لا غنى للاقتصاد عنها متقدم، أو نام كعامل مهم لاستحداث التنمية فيه. فبالتضخم المالي نمت، وتطورت الاقتصاديات المتقدمة، وبالتضخم المالي يمكن أن تنمو وتتطور الاقتصاديات الآخذة بالنمو. إن مشكلة التضخم بالنسبة للاقتصاديات الآخذة بالنمو إنما هي مشكلة هيكلية، وليست مشكلة نقديةص أو مالية. ناهيك عن عوامل التبعية للاقتصاديات الآخذة بالنمو في علاقاتها مع الاقتصاديات المتقدمة"
وهو ما يعني بأن في التضخّم شيئاً من "الإيجابية" التي تسهم في تطور المجتمعات ورقيها، ولو على حساب خسائر الآخرين.

كيف نواجه هذا "الشر"؟
أمام هذه السلبيات الكثيرة، والإيجابيات القليلة، وأمام خسائر الناس، أفراداً وشركات، وتضرر الحكومات، ألا توجد وسيلة يمكن من خلالها التصدي للتضخم، أو الوقوف في وجهه، أو على الأقل إصلاحه؟
هناك العديد من الآراء الاقتصادية التي كتبت عن هذا الموضوع، من بينها ما كتبه الدكتور يوسف شبل حول هذا الموضوع، حيث يقول: "يمكن الحد من الآثار السلبية للتضخم من خلال ما يلي:
زيادة ضريبة الدخل خصوصاً على الشرائح العليا بقصد امتصاص جزء من السيولة النقدية وتحقيق توازن أفضل بين الكتلة النقدية وحجم الإنتاج.
تخفيض الإنفاق الحكومي خصوصاً في بعض الأمور الإدارية التي لا تزيد من حجم الإنتاج مثل علاوات التنقل والخدمات الثانوية الأخرى وتركيز الإنفاق الحكومي على المشاريع الإنمائية التي تزيد من طاقة القطاعات الإنتاجية المختلفة.
وكذلك عدم زيادة الكتلة النقدية بنسبة أكبر من الزيادة المتوقعة في الإنتاج الوطني حتى لا يحدث خلل في التوازن بين السوق النقدي وسوق السلع والخدمات"

الرقابة على الإنفاق
فيما يرى الدكتور غازي عناية، أن هناك أبواباً عديدة يمكن للدولة فيها أن تتدخل لصالح التصدي للآثار السلبية لهذه الظاهرة الاقتصادية، منها:
- الرقابة على الإنفاق العام: حيث يجب أن تباشر سياسة الميزانية تأثيرها في الرقابة على التضخم والانكماش من خلال الإنفاق الحكومي، سواء الاستهلاكي أو الاستثماري برفع معدلاته، أو تخفيضها حسب الأحوال الاقتصادية السائدة. ونعني بالإنفاق الحكومي في هذا المجال الإنفاق المباشر، والذي يختلف عن الإنفاق غير المباشر، والذي تمارسه السلطات الحكومية عن طريق الضريبة إلا أن ذلك لا ينفي وجود علاقة بين الآثار المباشرة وغير المباشرة، وعلى فرض أن المتحصلات الضريبية من الأفراد، أو المشروعات تكون أهم مصادر الإنفاق الحكومي. وتتكرس سياسة الإنفاق الحكومي في إحداث عجز، أو فائض في الميزانية، للتحكم في الضغوط التضخمية أو الانكماشية"

خفض حجم الطلب
ويضيف بالقول: "يمكن معالجة ارتفاعات الأسعار التضخمية بتخفيض حجم الطلب الفعلي. وذلك بزيادة إيرادات الميزانية من نفقاتها أي عن طريق إحداث فائض في الميزانية، وكذلك عن طريق الاكتتاب. بالقروض العامة لامتصاص فائض القوة الشرائية، والسيولة النقدية الفائضة. وفي نفس الوقت يمكن استخدام السياسة النقدية بتقليل حجم الائتمان الممنوح للأفراد والمشروعات بتقييد شروط منحه، ورفع تكلفته... الخ"
أما في حالات الكساد، فيمكن أن تتدخل الدولة بطريقة أخرى، وفقاً للدكتور عناية، ويقول: "على العكس في أحوال الكساد فيمكن علاج البطالة برفع معدلات الطلب الكلي الفعلي عن طريق زيادة نفقات الميزانية - الدولة - عن إيراداتها. أي إحداث عجز في الميزانية. وفي نفس الوقت يمكن استخدام أساليب السياسة النقدية بزيادة حجم الائتمان الممنوح للأفراد، والمشروعات بتسهيل شروط منحه، والتخفيف من تكلفة الحصول عليه. أي بإتباع ما يسمى بسياسة النقود الرخيصة"
العمل المشترك
فيما يرى الدكتور فؤاد مرسي من خلال كتابه "التضخم والتنمية في الوطن العربي"، أن اليد الواحدة لا تكفي في مواجهة التضخم، بل يرى أن هذا التحدي يجب أن يجابه بعمل عربي وعالمي مشترك، ويقول: "ينبغي توجيه الاهتمام منذ البداية إلى أهمية الإجراءات الجماعية سواء تمت على المستوى الدولي أو تمت على المستوى العربي. وهنا تبدو أهمية توجيه الدعوة لمؤتمر عالمي تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة من أجل إعادة النظر في العلاقات النقدية والمالية بين البلدان النامية والبلدان الصناعية المتقدمة. ولا تغني هذه الدعوة عن قيام الدول العربية معاً بإجراء جماعي للحفاظ على قيمة عوائد النفط من التآكل مستعينة في ذلك بكافة التدابير الجماعية وساعية إلى الحيلولة دون تدهور شروط تبادلها مع البلدان الصناعية"
مشيراً إلى بعض النماذج السابقة والناجحة في مواجهة التضخم، كما حدث في المملكة العربية السعودية، قائلاً: "لقد استطاعت السعودية مثلا بفضل سياستها النقدية أن تخفض معدلات التضخم من 35% في عام 1975 إلى حوالي 9% في عام 1979" مضيفاً بالقول: "العبرة دائماً هي بإقامة آليات تساعد على توليد وتعبئة الادخار الخاص ليكون إضافة إلى المدخرات العامة التي تلعب الموازنة العامة دوراً أساسياً في توجيهها ومن ثم فلا بد من التركيز على ترشيد كل من الاستهلاك والإنفاق والاستيراد"
ويرى الأستاذ باسم الشمري، أن المملكة اليوم حاولت الوقوف مرة أخرى في وجه التضخم، عبر عدّة سياسات، قائلاً: "لقد حاولت المملكة مكافحة هذه الظاهرة بدعم كثير من المواد كالأرز والحليب، حتى مادة الشعير وغيرها، مما ساهم في الحد من تضخمها، كما أنها وجهت إلى الشركات الزراعية لتحقيق الأمن الغذائي بالاستثمار في داخل المملكة وخارجها كما في السودان لتأمين متطلبات المملكة من السلع الغذائية"

نصيحة في الغلاء
الصحفي الاقتصادي نضال حمادية، يرى إمكانية مواجهة الآثار السلبية للتضخم من خلال عدّة حلول، ويقول: "هناك مجموعة من الحلول المالية والنقدية والتجارية التي تسعى الحكومات لتطبيقها كلما عصفت ببلدانها رياح التضخم، ومن هذه الحلول لجم الإنفاق العام وإحداث برامج إضافية للضمان الاجتماعي والإعانات، مع محاولة تجفيف السيولة الفائضة وسحبها من التداول عبر التحكم بما يسمى "سعر الفائدة" ورفع نسبة الاحتياطي النظامي للبنوك لدى مؤسسة النقد، إضافة إلى تعديل سعر صرف العملة. ويلحق بهذه الحلول تجميد أو إلغاء الرسوم الجمركية على السلع الحيوية، وتحريك سلم الرواتب والأجور بالاتجاه الذي يحدث التوازن بين دخل الفرد ونفقاته قدر الإمكان"
كما يوجه نصائح للمواطنين يدعوهم القيام بها خلال مرحلة التضخم قائلاً: "إذا كان العبء الأكبر في مكافحة التضخم يقع على عاتق الحكومات، فإن الشعوب غير معفية من هذه المهمة، وبإمكان أي فرد مهما بلغ مستوى تعليمه أن يدرك -بداهة- مدى الأثر الذي يحدثه ضبط استهلاكه على تجاوز كثير من مشكلاته المالية، ليسهم مع غيره في إعادة التوازن لميزان العرض والطلب.. وليس أبلغ في هذا المقام مما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاءه الناس يشتكون غلاء اللحم، فخط لهم قاعدة اقتصادية من ذهب، قوامها كلمتان.. أرخصوه بالترك!"