بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بقلم: فضيلة الشيخ حماد بن عبد الله الحماد *

كانت قبلة المسلمين الأولى بيت المقدس، ومكث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون طيلة بقاؤهم في مكة عشر سنين يصلون إلى بيت المقدس، فلما كان في شعبان من هذه السنة الثانية من الهجرة حولت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقيل على ثمانية عشر، وقيل على ستة عشر شهراً، ولم يقل أحد أكثر ولا أقل، قال ابن حزم: وقد روى أن أول من صلى نحو الكعبة سعيد بن المعلى الأنصاري، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بتحويل القبلة فقام فصلى ركعتين. وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصرف إلى الكعبة، وقال لجبريل : وددت أن أصرف وجهي عن قبلة اليهود، ففال: إنما أنا عبد، فادع ربك وسله، فجعل يُقلب وجهه في السماء يرجو ذلك، فنزل عليه {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ٌ} [البقرة: 144] .
وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ(143)} [البقرة].
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: بينما الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاءهم رجل فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآناً، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها. وكان وجه الناس إلى الشام فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة، فقال بعض العلماء: وفي هذا دليل أن الناسخ لا يلزم حكمة إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمرا بالإعادة. قال ابن القيم في زاد المعاد كان في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، فأما المسلمون فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا آمنا به كل من عند ربنا، وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم، وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا. وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء. وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل وكثرت أقاويل السفهاء من الناس. وكانت كما قال الله: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة].
وقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة] .
وكانت محنة من الله امتحن بها عبادة ليرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فأنزل الله جواب السفهاء قوله تعالى: { قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة] . أي إن الحكم والتصرف والأمر كله لله فحيث ما وجهنا توجهنا، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات عديدة فنحن عبيده وفي تصرفه وخدامه. وأكد سبحانه الأمر بذلك مرة بعد مرة، وأمر حيث ما كان رسوله، ومن حيث خرج وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هداهم لهذه القبلة، وأنها هي القبلة التي لهم وهم أهلها لأنهم أوسط الأمم وهي أوسط القبل وأفضلها، فأختار أفضل القبل لأفضل الأمم. كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب، وأخرجهم في خير القرون. وخصهم بأفضل الشرائع ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض وجعل منازلهم في الجنة خير منازل، وموقفهم في الجنة خير المواقف على تل عال والناس تحتهم، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد من حديث عائشة: "إن اليهود لا يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لما ضلوا عنها. وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين" وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة، ولكن الظالمين الباغين يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت، ولا تعارض الرسل إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة. وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم وليهديهم، ثم ذكَّرهم نعمته عليهم بإرسال رسول إليهم وإنزال كتابه عليهم ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه، ثم أمرهم بذكره وشكره، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به وهي الصبر والصلاة وإنه مع الصابرين"
وثمة دروس تُؤخذ من حادثة تحويل القبلة ومن ذلك:
1 - أن بيت المقدس هو قبلة المسلمين الأولى وقبلة الأنبياء السابقين من بني إسرائيل قال ابن كثير في تفسيره: معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل، لكن البيت الحرام بني قبله وكان يُطاف به ويُتعبد فيه.
روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال "المسجد الحرام. قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما؟ قال: أربعون سنة"
وذكر ابن كثير تفسيره ما روى عبد الله بن عمرو "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فأمرهما ببناء الكعبة فبناه آدم ثم أمر بالطواف به وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس"
قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران] ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتاق أن يعود إلى القبلة الأولى لأبيه آدم ومن بعده فحقق الله ما تمناه، وقد جاء في التوراة ما يدل على أن الكعبة تعود قبلة بعد بيت المقدس فيما نقله ابن القيم في هداية الحيارى قال "وتفتح أبوابك الليل والنهار لا تغلق ويتخذونك قبلة، تدعى بعد ذلك مدينة الرب" يعني بيت الله.
2 - أن تحويل القبلة أمر الله سبحانه وتعالى يحب التسليم له، وهذا يُوجب الإيمان لله سبحانه وتعالى والتسليم له لا الحسد والعناد، وأن احتج أهل الكتاب بأن بيت المقدس قبلة إبراهيم الخليل ومن بعده فقد رفع إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل قواعد البيت الحرام في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة: 127]. وقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران]. مقام إبراهيم الحجر الذي صعد عليه لرفع قواعد البيت.
3 - أن الأنبياء كلهم رسالتهم في الأصل واحدة وهي دعوة الناس لتوحيد الله، وإن اختلفت في الفروع، وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، عرف أهل الكتاب وصفه وصفته ومهاجره، إلا أن خروجه من العرب أورثتهم حقداً وحسداً وعنادا، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى المحاورة والمناظرة فقال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66) {إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} [آل عمران: 66].