العالم من دون «ربا» <
>زياد بن عبدالله الدريسالحياة - 18/03/09//
لا أملك مصرفاً إسلامياً، ولست مديراً تنفيذياً لبنك إسلامي كما أنني لم أتعاطَ (أو لم أتورط!) في إدارة إحدى شركات توظيف الأموال. على رغم كل هذه اللاءات التي تحمي من التهمة الجاهزة بمزاولة (الاتجار بالدين)، إلا أنني لا أستطيع أن أخفي دهشتي أو أتغافل عن عنوان عريض على موقع «البي بي سي» في الأسبوع الماضي: (البنوك الإسلامية أكثر نجاحاً في الأزمة العالمية).
الناشر ليس أحد المواقع الأصولية أو الفضائيات الدعوية، والكاتب ليس فضيلة الشيخ فلان أو أبو القعقاع الأفغاني! فالخبر مصدره هيئة الإذاعة البريطانية، وكاتبته لوسي وليامسون.
وعندما يأتي في ثنايا الخبر: «أن المؤسسات المالية الإسلامية لم تتضرر بالدرجة نفسها التي تضررت بها مثيلاتها الغربية، لأن الأولى لم تستثمر في الأصول الرديئة»، فيجب أن تسطع في ذهني فوراً الصورة النمطية البشعة عن المؤسسات المالية الإسلامية في العالم العربي. فالقائمون عليها وفق الصورة النمطية عندنا هم مجموعة من المتاجرين بالدين، عبر تنميق مسمّيات شرعية لعمليات غير شرعية مماثلة لما في البنوك الاعتيادية الأخرى. وهي مؤسسات وبنوك تستغل العاطفة الدينية للجماهير فتستحلب أموالها باسم الدين، الذي لا تستغله البنوك الاعتيادية لتسويق منتجاتها.
لست هنا مدافعاً عن البنوك الإسلامية، أو منزهاً لعملياتها والعاملين فيها، أو نافياً عنها الاستغلال والوحشية التي لا تصيب البنوك الاعتيادية وحدها. لكن عندما يشتهر بنك إسلامي بوحشية تعاملاته وجشعه، فإنني لا أعزو ذلك إلى أنه بنك إسلامي، بل إلى جشع وانتهازية القائمين عليه. والبنوك الإسلامية لم تتأسس على أيدي أنبياء أو مصلحين، بل هم بشر فيهم الخير والشر والأمانة والخيانة والقناعة والطمع. كما أن البنوك الإسلامية لا تشترط في توظيف العاملين لديها أن يكون المتقدم من الملائكة!
إذاً ما الذي يميز البنوك الإسلامية عن البنوك الاعتيادية، ما دام وضع القائمين عليها كذلك؟
يميزها، أو يميز الصادق منها بصورة أدق، أنها تسعى إلى استحداث مصرفية إسلامية. تتجلى هذه «الإسلاموية» في تلافي ما حظرته الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية من تعاطي الربا والبيوع المحرمة. وإذا قام أحد البنوك المسماة «إسلامية» باجتراح معاملات مالية ربوية أو محرّمة، ولكن بمسميات شرعية منمقة، فهو لا يعود بنكاً إسلامياً، وإن سمي كذلك.
يبقى سؤال جذري يطرحه كثيراً المعترضون على مبدأ البنوك الإسلامية: هل يمكن حقاً تأسيس مصرفية إسلامية، أم أن المسألة تكمن في مساعٍ مزيفة أو فاشلة نحو هدف متعذّر التحقق؟!
لست اقتصادياً حتى أجيب بنعم أو لا. لكنني قرأت واستمعت الى متخصصين في الاقتصاد، لا يرون سهولة تأسيس مصرفية إسلامية في هذا العالم المحكوم بالرأسمالية، لكنهم أيضاً لا يرون استحالة تطهير العمليات المصرفية من بعض تلوثاتها المخالفة للشرع الإسلامي، بل والشرائع الأخرى. يقول توبي بيرتش، وهو أحد المنظرين الاقتصاديين في بريطانيا حالياً، في حوار مع صحيفة «الاقتصادية»، عن الأثر التضخمي الذي نجمت عنه الأزمة المالية العالمية الراهنة، إن الحكمة نراها في تحريم الربا حسب التعاليم الإسلامية، «ولكن المجتمعات العلمانية نسيت دروس العهد القديم التي كانت تحرم الربا». وبعيداً عن استنتاج بيرتش فإن المنطق الإيماني المستهدي بالآية الكريمة: (وأحل الله البيع وحرم الربا) يدحض الشبهة المثارة دوماً بأنه لا يمكن قيام مصرفية بنكية من دون ربا في عالمنا الآن، إذ لو صدقت هذه الفرضية لفقدت الآية الكريمة مصداقيتها. إذ لا يتسق مع حكمة الخالق ورحمته بعباده أن يحرم عليهم شيئاً لا يتاح البديل منه.
والذين يتأزمون عند الحديث عن الاقتصاد الإسلامي لا يصيبهم نفس التأزم عند الحديث عن الاقتصاد الاشتراكي إزاء الاقتصاد الرأسمالي.
ولو أن الاقتصاديين الإسلاميين انتحلوا اسماً للتعاملات المصرفية اللاربوية، غير الاسم الإسلامي لربما زال الاحتقان تجاه المسمى، حتى لو بقي البنك مسترشداً بالتعاليم الإسلامية في تعاملاته، على منوال ما أبانه ماكس فيبر في استرشاد رأسماليي أميركا مطلع القرن الماضي بالتعاليم البروتستانتية، في كتابه الأخاذ «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية». وإذا كانت الرأسمالية قد نجحت في ابتكار أساليب جذابة في تسويق المنتجات، فإن الإسلامية قد نجحت يوماً ما في لجم «الربا» من افتراس رأس المال. وليس من العدل أو المنطق مقارعة الذين ينبذون مبدأ المصرفية الإسلامية بنفي أي نجاح وصوابية في النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، كثأر نقدي مضاد!
والصناديق الاستثمارية الشرعية في العالم الإسلامي ليست الأولى من نوعها، فقد سبقتها بعقود طويلة ما تسمى في الغرب بالصناديق الأخلاقية، التي تشير أحد المصادر الاقتصادية السويسرية (swissinfo) إلى تزايد انتشارها في الدول الغربية بمعدلات لولبية منذ عام 2007. ويشير المصدر إلى أن الاستثمارات الأخلاقية ظهرت نتيجة لدوافع دينية في العشرينات من القرن الماضي في البلدان الانكلوساكسونية (أي البروتستانتية)، حيث تمثل اليوم حوالي 10 في المئة من السوق المالية! ويتم وصف هذه الصناديق الأخلاقية، أو الدينية، بأنها تلك التي لا تستثمر في قطاعات تعتبر مرفوضة (أو محرّمة) مثل الشركات العاملة في قطاعات التسلح والدعارة والمراهنة، وفي الولايات المتحدة تضاف صناعة التبغ من ضمن المحرمات على هذه الصناديق!
إذاً فالمصرفية الإسلامية ليست هي المبادرة الدينية الأولى لتطهير المعاملات المالية، كما أنها ليست الأكثر انتشاراً، إذ لم تبلغ نسبتها 10 في المئة أو حتى أقل من هذا بكثير. لكنها الأكثر إزعاجاً وجدلاً، إذ نشأت في مجتمعات مهزومة لا ترى أي قدرة على الإسهام في تغيير أي ملمح في وجه العالم.
نحن حقاً مجتمعات مهزومة ومأزومة ومتهالكة.. لكننا لم نمت بعد!
* كاتب سعودي
ziadalhayat@hotmail.com