ليلة الجن ...!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول علقمة : قلنا لـعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه وأرضاه: هل كان أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [تخلّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فخفنا أن يكون استطير أو اغتيل، فذهبنا نبحث عنه حتى الصباح، فوجدناه قد أتى من نحو غار حراء صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟
قال: (لقيت الجن وقرأت عليهم القرآن، وسألوني الزاد فقلت: لكم كل عظم أوفر ما يكون طعاماً لكم، ولكم كل بعرة أوفر ما تكون طعاماً لدوابكم) (1)
لقد ذكر الله الجن في مواطن كثيرة، منها: قوله: ((قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً))
ومنها: قوله سبحانه وتعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ))، وقوله: ((وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)) إلى غير ذلك من الآيات العظيمة الكثيرة.
وذكر سبحانه وتعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث لهم، فقال له الله تبارك وتعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))، والعالمين يشمل عالم الجن والإنس.
والرسول صلى الله عليه وسلم التقى بالجن مرتين في مؤتمرين عظيمين، ولقاءين ساخنين حارين، تحدث مباشرة مع الجن فيهما.
أما اللقاء الأول، فسوف أعرضه لكم: خرج صلى الله عليه وسلم من مكة قبل الهجرة؛ لأنه أوذي، فخرج يريد أن يدعو أهل الطائف ؛ لأن أهل مكة رفضوا أن يستجيبوا إلا أربعة أو خمسة من العبيد، و أبو بكر ، و علي بن أبي طالب .
فخرج للطائف ، لعل أهل الطائف أن يكونوا أحسن حالاً من أهل مكة ، لكن:
وما شر الثلاثة أمر عمرٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
خرج صلى الله عليه وسلم، وصعد جبال الطائف ، الحاجزة بين مكة و الطائف ، فلا رفيق إلا الله، ولا مؤنس إلا الله، ولا صاحب إلا الله، ما عنده زاد من الطعام والشراب، بل زاده: يقينه، وذكره لله، عز وجل، وما عنده مركوب يركبه من الخيل والجمال، فمركوبه: التوكل على الله، عز وجل، وما عنده عكاز يتعكّز به، إنما عكّازه: الحول والقوة من الله، سبحانه وتعالى.
هذا الرسول الكريم، الذي لو أراد أن تصيّر له جبال الأرض ذهباً وفضة لصارت، بقي جائعاً، متعوباً، مكدوداً، ظمآناً، سهراناً، حتى وصل إلى الطائف بعد ليالي.
فلما دخل الطائف ، ما جلس، ولا أكل، ولا شرب، وما استضافه أحد، ولا استقبله أحد، إنما عمد إلى نادٍ يستقبل فيه أهل الطائف جميعاً فسلّم عليهم فلم يردوا عليه السلام، لأنهم جاهليون، وثنيون، يحملون الوثنية في رؤوسهم، وما دخلت في أدمغتهم: لا إله إلا الله.
فقال: (إني رسول لكم بين يديّ عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا) (1)
فتهكموا، واستهزؤوا، وتضاحكوا، وأتوا بكلمات نابية، مؤلمة، فضلاً عن الجوع الذي أصابه، وعلى الظمأ، وعلى التعب، وعلى السهر.
يقول أحدهم له: أما وجد الله أحداً من الناس إلا أنت حتى أرسلك؟
ويقول الثاني المستهزئ المستهتر: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
ويقول الثالث: إن كنت رسولاً، فأنت أكرم من أن أكلمك.
فعاد صلى الله عليه وسلم، وليتهم تركوه، لكن انظر إلى الخبث وانظر إلى اللؤم لقد أرسلوا عليه العبيد، والأطفال يرجمونه بالحجارة، حتى أسيلت قدماه.
وقد كان بالإمكان وبقدرة الواحد الأحد: أن يحميه بملائكته، كل ملك يستطيع أن يدمر الدنيا بجناحيه، لكن الله حكيم، سبحانه وتعالى، يريد أن يؤذى هذا الرسول، ويؤجر، ويصبر، ويكون قدوةً للناس.
فأتى ملك الجبال فقال: ائذن لي أن أطبق عليهم الأخشبين.
قال: (لا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) (1)
فلما ذهب، نزل صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في وادي نخلة، ما يبن مكة و الطائف .
وفي الليل الدامس، وليس عنده قريب، ولا رحيم، إلا قربة من الحي الأحد، توضأ وقام يصلي، ورفع صوته بالقرآن، يستأنس به في الوحشة؛ لأنه كان أكبر مؤنس للرسول صلى الله عليه وسلم في وحشته، وفي سفره.
وانظر إلى هذه الأعجوبة!.
لقد أرسل الله إليه جن نصيبين من اليمن في تلك الليلة، واللحظة، حتى ملؤا الوادي يستمعون القرآن.
فأخذ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بكلام الله عز وجل: ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لله الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)).
وكان من أدبهم أن كان سيدهم يسكتهم، ليسمعوا القرآن، ويقول لهم: ((أَنْصِتُوا)) فكانوا ينصتون، وكان بعضهم يركب بعضاً، حتى يقتربوا من الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)).
قال سبحانه: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً))، يقول أحد المفسرين: عجباً حتى الجن يتذوّقون القرآن؟
حتى الجن يدركون بلاغة القرآن؟
حتى الجن تسمّوا أفهامهم إلى معرفة القرآن؟
((إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى الله كَذِباً)).
فلما وصلوا إلى هذا قالوا: ((وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً)).
من أخبر الجن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في وادي نخلة بين مكة و المدينة؟
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما: [إن الجن منعوا من الاستماع من السماء؛ لأنه كان قبل إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزال الوحي كان الجني يركب على الجني على رأسه ثم يأتي الثالث على رأس الثاني، وهكذا حتى يصبحوا كأنهم مسبحة، أو كأنهم عقد متكامل إلى السماء.
فأعلاهم يسمع الوحي من السماء، فيبلغ الذي تحته، حتى يبلغوا الأرض فيأخذ السحرة والكهنة بعض الكلمات، فيضيفون عليها مائة كذبة] فلما نزل الوحي، أراد الله أن يحمي الوحي؛ ليكون الإرسال صافياً، قوياً لا يدخل معه تشويش آخر، فأرسل الله الشهب على الجن، فكانت ترميهم من كل مكان، فقال سيد الجن: اذهبوا في أنحاء الأرض، في البحار، وفي الديار، فإن في الأرض أمراً حدث ما ندري ما هو.
فذهبوا، يبحثون ما هو الأمر الجديد الذي حدث؟
فتفرقوا.
فأما جن نصيبين: فهم الذين وفقوا، ووجدوا السر، ووجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في وادي نخلة ، فعرفوا أن هذا هو السر.
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من الصلاة تفرقوا، وضربوا بقاع الأرض، ووصلوا إلى قومهم في اليمن ، ودعوهم إلى: لا إله إلا الله.
وقال سبحانه: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي الله وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))، أتوا في ليلة واحدة، ورجعوا يدعون إلى التوحيد: توحيد الله عز وجل.
وعاد صلى الله عليه وسلم، ومعنوياته مرتفعة، ونفسه مرفرفة بالتوحيد، يوم أوجد الله لدعوته قبولاً صلى الله عليه وسلم.
أما الليلة الثانية، فهي ليلة خرج فيها صلى الله عليه وسلم وسط الليل، قام من بيته من مكة ، وخرج إلى غار حراء ، والتقى مع الجن، وسلم عليهم، ودعاهم إلى الإسلام، حتى سمع لأصواتهم رجّة بالوادي.
فقال له أبو ذر : ما هذا يا رسول الله؟
قال: (بينهم خصام فأصلحت بينهم) يختصمون كما تختصم القبائل في الدنيا لأن بينهم جوار وبينهم أرحام، وبينهم اختلافات في وجهات النظر، فأتى صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم.
وهو منهم: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ومنهم: الكريم، والبخيل، ومنهم: الصادق، والكاذب، كما كان الإنس.
فلما أسلموا قالوا: يا رسول الله، نريد الزاد.
قال: (زادكم كل عظم ذكر اسم الله عليه) أما إذا لم يذكر اسم الله على العظم فحرام عليهم أن يأكلوه.
قالوا: نريد لدوابنا طعاماً.
قال: (كل روث طعام لدوابكم) (1)
ولذلك لما أتى ابن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم بروثة قال له صلى الله عليه وسلم: (إنه رجس) (1)
يقول أبو هريرة رضي الله عنه، قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا صلاة الظهر أو العصر، قال: فلما كبر صلى الله عليه وسلم، وضم يديه، وبدأ يقرأ سمعناه يقول في الصلاة: (أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله) (1) ويتأخر صلى الله عليه وسلم حتى اقترب من الصف الأول.
فلما سلّم قلنا: يا رسول الله، سمعناك تقول: كذا وكذا.
قال: (أو سمعتموني؟ )
قلنا: نعم، يا رسول الله.
قال: (والذي نفسي بيده لقد عرض لي جان وأنا في الصلاة معه قطعة من نار كاد يحرق وجهي ووالذي نفسي بيده لولا دعوة أخي سليمان لقبضته وربطته حتى يلعب به أطفال المدينة) (1)
وفي لفظ، قال: (فمسكته حتى وجدت برد لعابه على يدي) (1)
يعني مسكه صلى الله عليه وسلم بحلقه، فأخرج لعابه على كف الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد برده، قال: (لو شئت لربطته بسارية من سواري المسجد حتى يلعب به أطفال المدينة لولا دعوة أخي سليمان) عمر : (ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره) (1)ي في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس (3051)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب التبسم والضحك (5621).
يعني: إذا أتى عمر ، رضي الله عنه، من هذا الشارع، أتى الشيطان من شارع آخر، فإذا أتى من هنا، حوّل طريقه من الطريق الآخرّ.
هل للجن حقيقة؟
نعم، من عقيدة أهل السنة والجماعة أن للجن حقيقة، وأنهم نفر، وأنهم أمة، وأنهم خلق من خلق الله، ومن كذب بذلك فقد كفر، بعد أن يعرف الآيات والأحاديث؛ لأن الله ذكر ذلك.
وبعض الناس يقول: الجن ليس لهم حقيقة، لأن العلم الغربي، والعلم المادي، لا يؤمن إلا بالمحسوس الملموس، ولذلك يكفرون بالجن، فإذا أتيت بإنسان مصروع تتكلم على لسانه امرأة، يقول: هذا مريض.
تقول: الصوت مختلف.
يقول: لا، هذه تلبيسات.
فهو لا يؤمن إلا بالمشهود.
فهؤلاء كفروا بالله عز وجل؛ لأن الله ذكرهم في أكثر من عشرة مواضع، في القرآن وذكرهم صلى الله عليه وسلم.
والصحيح: أنهم يتلبسون، بالإنس، لكن الذي ينفي هذا مخطئ خطأ بيناً وليس بكافر؛ لأن الله ذكر الجن في القرآن، ولكن ما ذكر في أدلة صريحة أنهم يتلبسون بالإنس.
قال سبحانه وتعالى: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ))
وقال سبحانه وتعالى:
((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا))
قال بعض أهل العلم: استمتع إناث الإنس برجال الجن، وإناث الجن برجال الإنس، أو كما قيل.
فمن أنكر التلبس، فقد أخطأ، وخالف الصواب.
والجن مؤمنون كفار،كما قال سبحانه عنهم: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)).
ومسلمو الجن ثلاثة أقسام: مقتصدون، وظالمون لأنفسهم، وسابقون بالخيرات مثل الإنس، ومنهم: كفار.
والصواب: أن الله لم يرسل إليهم رسلاً من الجن، بل من الإنس؛ لقوله تعالى عنهم: ((يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)).
يقصدون القرآن.
فهم يتبعون الأنبياء الذي أرسلهم الله للبشر، كـموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
ويكفي أنهم استمعوا للقرآن، وآمن به بعضهم، ورجع يدعو إليه.
وأما من قال: بأن الله يرسل منهم رسلاً، فهو قد احتج بأدلة عامة محتملة؛ كقوله: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ))
فأثبت تعالى أنه أرسل منهم رسلاً.
ولكن الصحيح: أن الرسل من الإنس؛ لاحتمال الدليل وعدم صراحته، فهو ليس كالأدلة السابقة.
والصحيح: أنهم يدخلون الجنة، ويتنعمون، ويشربون من الأنهار، ويجلسون على الأرائك، ويسكنون القصور.
لقوله تعالى عن الحور: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ))؛ لأنه تعالى لا ينفي شيئاً، إلا وهو ممكن حدوثه، وهم يتمثلون بالقطط، والكلاب، والثعابين، وبعض الأحياء؛ لأن الله أعطاهم القدرة على التمثّل.
فالشيطان تمثل يوم بدر في صورة شيخ من أهل نجد ، لحيته طويلة، وعليه عمامة، وجاء يخطب في كفار قريش ويقول: ((لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ))، ولكن ((فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)).
أما حكم طعامهم: فإنه لا يجوز في الإسلام، الاستنجاء بالعظم، ولا بالروث، لأنه طعام الجن. ونهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وهذه مسالة ثابتة في حديث أبي قتادة و سلمان في صحيح مسلم وغيرهما من الأحاديث.
أما حضور ابن مسعود ليلة الجن، فكما سبق في صحيح مسلم ، أنه نفى أن يكون معه صلى الله عليه وسلم أحد عندما لقي الجن.
وأما ما ثبت من أن ابن مسعود كان معه صلى الله عليه وسلم، وأنه أعطاه نبيذاً؛ ليتوضأ به، فقال صلى الله عليه وسلم عن النبيذ: (ثمرة طيبة وماء طهور) فإن هذا الحديث أخرجه الترمذي وفيه رجل مجهول. (1)
فلا نعارض به الحديث الصحيح الثابت من أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معه أحد ليلة الجن.
ومن المسائل: أن الشيطان من الجن؛ لأنه تعالى يقول: ((كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ))، وقال: ((وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)) وهو خلق الشيطان.
ونحن لا يهمنا كثيراً أن نعرف نسب الشيطان، ولا أسرته، ولا قبيلته، ولا جده، ولا خاله!!
بل المهم أن نعرف في الشيطان ثلاثة أمور:
أولاً: لماذا خلقه الله؟
والأمر الثاني: ماذا يفعل بنا؟
والأمر الثالث: كيف نتقي منه؟
وهذه معلومة للجميع، فالواجب أن نتخذه عدواً كما قال سبحانه: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ))،
وأن نتحرز منه بالحروز التالية:
أولها: الوضوء، فأوصيكم ونفسي أن يكون المسلم متوضئاً دائماً، فكلما خرج من بيته يكون طاهراً سواء في وقت صلاة، أو في غير وقتها، فهو سلاح المؤمن.
فلن يقترب منك شيطان، وأنت متوضئ، ولن تغضب، بإذن الله، بل لا يأتيك الغضب، إلا نادراً إذا كنت على وضوء.
غضب رجل عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) (1)
وقال صلى الله عليه وسلم: (الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا وجد أحدكم غضباً فليتوضأ) (1)
فإذا غضب أحدكم على أهله، أو على جيرانه، فليتوضأ ليبرد جسمه، وإذا كان واقفاً فليجلس، وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، علّ الله، تبارك وتعالى، أن يهديه سواء السبيل، فأول حرز هو الوضوء.
الثاني: التسمية بأن تدخل بيتك، فتسمي، وتأكل الطعام، فتسمي، وتشرب الشراب، فتسمي، وتتوضأ فتسمي.
فإذا سميت، فإنه لا يقربك شيطان أبداً، وفي الحديث: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه. قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) (1)
الثالث: التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ففي الحديث: تسابّ رجلان عند الرسول صلى الله عليه وسلم حتى احمرّ وجه أحدهما وانتفخت أوداجه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب منه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) (1)
فقيل للرجل ذلك.
فقال: أمجنون أنا؟
فانظر ماذا يصنع الغضب بصاحبه.
الرابع: قراءة آية الكرسي، وهي آية عظيمة، وأطالب نفسي، وإياكم بحفظها، وتحفيظها أهلكم وأبناءكم، وقولها عند النوم، وفي الصباح، وأدبار الصلوات، فإنها من أعظم الحروز، بإذن الله.
والبيت الذي تذكر فيه، وتقرأ فيه، لا يقربه شيطان أبداً.
فعلى المسلم أن يعتني بهذه الآية.
الخامس: تلاوة المعوذتين:
((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ))، و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))، ففي حديث عقبة بن عامر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاه بأن يقرأ بهما بعد كل صلاة.
وقال أبو سعيد : [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقي الحسن و الحسين فلما أنزل الله: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))، ترك هذه الرقى واكتفى بالمعوذتين أو بهاتين السورتين.] (1)
فهي من أعظم ما يقرأ على الأطفال، وفي البيت، وعند النوم، وعند القيام من النوم.
السادس: قول: بسم الله الذي لايضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.
تقولها ثلاث مرات.
في الترمذي : (من قال حين يصبح وحين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات حين يصبح وحين يمسي ما مسه سوء ذاك اليوم) (1)
السابع: قول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) (1)
من قالها لم يقربه سوء تلك الليلة.
وراوي هذا الحديث، قال سمعت الرسول يقول: (من قال: أعوذ بكلمات الله التامات ثلاث مرات في ليلة لم يمسه في تلك الليلة سوء)
فلدغته عقرب في إحدى الليالي فقالوا: أين الحديث الذي رويته لنا وقد لدغتك العقرب؟
قال: (والله الذي لا إله إلا هو ما قلتها تلك الليلة!.)
الثامن: تهليل مائة تهليلة وهي من الحروز ذكرها ابن القيم في بدائع الفوائد .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له عدل عشر رقاب من ولد إسماعيل. وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل منه إلا أحداً عمل بمثل عمله أو زاد عليه) (1) .
وهذه لا تأخذ من العبد عشر دقائق، وقيل: سبع، وقيل: ست.
وأوقاتنا تذهب سدى في الفكاهات، وفي الطُرف، وفي المزح، وفي اللعب، وفي الذهاب والإياب، وليتها في هذا وحسب، ولكن في الغيبة، وفي النميمة، وفي شهادة الزور، وفي الوشاية بين الجيران، والإخوان، والعشائر، والقبائل، وفي التناحر، وفي التكالب على الدنيا، فنسأل الله أن يحسن لنا ولكم الحال.
فنحن كما قال الأحنف بن قيس قال: عرضت نفسي على القرآن فوجدت الناس ثلاث شعب: وجدت أناساً في القرآن أبراراً لستُ منهم، يقول الله عز وجل عنهم: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) قال: وأنا لست منهم.
ووجدت طبقة أخرى لستُ منهم، وهم كفار فجرة، يكذبون بالله واليوم الآخر، فلستُ منهم، والحمد لله.
ووجدت أناساً كما قال سبحانه وتعالى: ((وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) فأنا منهم.
ونحن نقول: نحن من هؤلاء، فعسى الله أن يتوب علينا وعليكم.
التاسع: ذكر الله مطلقاً فأوصيكم ونفسي بذكر الله.
أن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله، ومتحركة بالتسبيح والتهليل، لا تفتأ أبداً كما قال سبحانه: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)).
يقول صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي وسنده حسن: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) (1) .
وأتى عبد الله بن بسر كما عند الترمذي ، كذلك، بسند حسن، فقال: [يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به]
قال: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) (1) .
اذكر الله دائماً وأنت في بيتك وفي مكتبك وفي سيارتك.
فعن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلمسيروا هذا جمدان (اسم جبل) سبق المفردون.قيل: وما المفردون يا رسول الله؟
قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) (1) .
العاشر: قراءة سورة البقرة في البيت.
فبيت تُقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه الشيطان كما صح عنه صلى الله عليه وسلم (1) .
أسأل الله أن يحفظني وإياكم والمسلمين من الجن والشياطين.
والله أعلم.
لفضيلة الدكتور عائض القرني