خالد طفل ولد في ظروف والده العسِرة , الذي كان حارساً في صحيّة القرية , يتقاضى راتباً ليس بالكافي , فـ فكّر والده في أن يبدأ أعمال تجارية حرة , يصرف بها على بيته الكبير الذي يحوي أغلى ما كان يعتز به , إبنه الوسيم ذو الذكاء الفطري الذي أبهر الجميع في حل مسائل الرياضيات وبراعته في العلوم وفهمه لأشياء تصعب على الشاب اليافع .
خالد الذكر الوحيد بين 7 إناث , كان يذهب كل صباح إلى بيت الجيران يلعب ويرتع , بينما والده يعمل صبح مساء كي يجعل من عائلته كتلك العائلات المجاورة التي تستمتع بالحلال وجديد اللبس وحسن المظهر , وما إن كبُر خالد حتى جاء موعد المدرسة .
كان الأطفال يبكون في أول أيامهم الدراسية كعادتهم , وخالد يذهب للمدرسة مفعماً بالحيوية والنشاط تعلو محياه الإبتسامة , في شنطته قطعة خبز محشية , ومشروبه الطازج , الذي أعدته له أمه في البيت , فأعجب كل المعلمين بروعة حضور خالد وعقله المتفتّح وجعبته الممتلئة بالأفكار , وروحه المرحة , فكان يرتقي خشبة المسرح ويلقي القصائد التي يحفظها لأحمد شوقي وابن زيدون , ومرة يتلو القرآن وهكذا أصبح خالد مشروعاً دراسياً ناجحاً يسجل علامة الإمتياز في كل سنة حتى انتهى من المرحلة الثانوية .
حين انتهاء خالد من المرحلة الثانوية , كان والده قد أصبح أحد أكبر تجّار البلد , فقرر والده أن يرسله في بعثة دراسية إلى الصين , آملاً أن يجعل من ولده بطلاً ينظر له الجميع كمثال للنجاح والتربية الحسنة , فسافر خالد محمّلاً بدعوات والديه ورضاهما عليه , وراحَ يطلب العلم في أقصى الأرض , كل همّه إرضاء ربه ووالديه .
خلال دراسته التقى خالد عدداً كبيراً من الوجوه السيئة والحسنة , فاجتنب أولئك وشرهم واستزاد من حُسن هؤلا وصاحبهم , وكما هو خالد ناجح في حياته حتى في الجزء الآخر من العالم , فاغتر خالد وأحب الحياة , وأقبَل عليها وبدأ قلبه ينسى ربّه الذي جعل له كل هذا , حين التقى بفتاة جعلت من قلبه متصلباً تجاهها , وجفى في وصال أهله الذين ينتظرونه بفارغ الصبر أن يعود إليهم محمّلاً بالشهادة العليا التي تجعله يرتقي المناصب ويفتح للعائلة باباً تستنشق منه الشرف والسيرة الحسنة .
وغدا الجميع حيارى لا يعلمون ما أخباره ولا يستطيعون إليه سبيلا - الأم دموعها أنهار , والأب احدودب ظهره مستسلماً للكِبر .ولا أحد يرعى شؤون أخواته , بينما خالد هائم في عشقه الأفلاطوني كلما مر طيف قريته في شريط ذكرياته , بانت له تلك الحسناء تتغنّج وتلعب فينساهم مرة أخرى .
ومرّت الأيام والسنون وخالد ناجح في دنياه , ناسٍ لأُخراه .
وذات صباح استيقظ خالد متعباً عابس الوجه كريه الرائحة , قوارير البيرة حول السرير قد شرب منها الليلة الماضية حد السكر فبدأ الشعور يعود إليه وأخذ عقله يتدبّر حاله , وضميره يصحو .
قال خالد لنفسه : يوم الحصاد غداً فما العمل ياترى .
إمّا ... ! . ! - وسكت لحظة - .
عاد به شريط الذاكرة 5 سنين للوراء .
عاد مرة أخرى وقال إمّا للجنة وإما إلى النار .
فارتبك خالد وارتجّ قلبه , وخاف ! وقال يارب هل كنت في عالم آخر ؟ أين كنت يارب ؟
وكثُرت الإستفهامات في رأسه .
يارب ! يارب !
وبقي ينادي ربّه , لا يعلم مالذي كان يحدث .
تذكّر خالد هذه الموعظة , حينما كان يقول له والده :
ياولدي النجاح نجاح الآخرة مالدنيا إلى مرحلة , ياولدي إسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
«مالي وللدنيا!؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعةً من نهار، ثم راح وتركها».
فنهض خالد , واستغفر الله , ونفض عنه كل وجوه الفساد , وأعاد على جسده رداءه المسلم , وخرج يقصد المسجد , لكنه لا يعلم أين هو ! قال لنفسه رب اغفر لي وسامحني ياسبحانك يا ألله : 5 سنين لا أعلم أين المسجد !
وصل المسجد , فكبّر ودخل في الصف : فصدح صوت الحق منادياً :
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوافَفِي النَّارِلَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوافَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَعَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ).
فبكى وكثُر بكائه حتى تعجّب الناس له .
وبعد الصلاة , حمل خالد نفسه , يجهّز حقيبته للسفر , بعد أن ينتهي من إمتحانه الدنيوي , ونجح خالد وعاد محمّلاً بالشهادة
وصدح المنادي في القرية : عاد خالد عاد خالد . فاستبشر الأهل ونسوا حزنهم وفرح الأب وكفت الأم دموعها , وعادت حياتهم كجمالها الذي كانت عليه قبل سفر خالد .
حذيفة مدخلي
3-7-1430هـ
26-6-2009م
مانتشستر