قصة قصيرة .. علي عكور
ملامح هاربة
" البُورْترِيْه فنٌّ صعْبٌ و مُعَقّدٌ . نحن لا نَرْسمُ الوجُوهَ و حَسْب , إنّما نرْسمُ ما يخْتَبِئُ خلْفَ جُدْرانهِا . تذكّروا : نحن نَرْسُمُ بإحساسِنا قبلَ فرْشَاتِنا . نرْسُمُ تارِيخَ الوجوه . وقبْلَ أن تَبْدأَ في الرسْمِ تذكّر أن ما تنْظرُ إليهِ ليْسَ وَجْهًا بقَدرِ مَاهُو صُنْدوقٌ مغلق"
هكذا قال لنا مدرس الرسم في ورشة عمل فنية ...
في زاوية من الشارع كان المارّة يتحلّقون حول شيء ما . جرّني فضولي من تلابيبي نحوهم , وجدتهم يستمتعون بمنظر امرأةٍ في منتصف عمرها ترسم وجه رجلٍ يجلس قبالتها في هدوء تمثال . فهمت أنها رسامة تعرض على المارّة رسم وجوههم مقابل حفنة من المال .
مرّرت فرشاتها بحركات ناعمة و متتالية على وجه الرجل في صفحة المرسم , ثم قطعت الورقة و أعطته , تفرّس وجهه الجديد باهتمام . يبدو أنه وجد شبها كبيرا بين الوجهين , لذلك ابتسم و مد يده ببضع وريقات . كانت ملامحه بسيطة جدا , لم يكن يخبئ شيئا خلفها .
تذكرت كيف كنت أرسم وجوه أصدقائي , كنت أتعب في رسمها و أشك في قدرتي الفنية . يقولون : ( أنت تجيد الرسم ) و أردّ : ( بل أجيد الكذب بفن ) أعطيهم أوراقا تحمل وجوههم , يفرحون و يمضون , و أودّ لو ألحقهم و أصرخ وراءهم : هذه الوجوه لا تشبهكم , لستم أنتم , فرشاتي كاذبة . ذات ليلة رسم مرهقة حَطَمت مرسمي و بعثرت ألواني . ليلتذاك قطعت عهدا على أصابعي ألا تبرّ بريشة بعد اليوم . كم هو صعب و مرهق أن ترسم وجه إنسان . مهما أوتيت من جنون الريشة ثمة شيء خلف الوجوه يستعصي عليك .
جاء دوري و جلست قبالة المرأة . كيف سترسمني ؟ كم وجها سترسم ؟ أي الوجوه سيعجبها ؟ هذا ما كان يشغلني . كلما كثرت الوجوه التي نحملها و تداخلت في بعضها تعقدت مهمة الرسم . هي لن ترسمني بقدر ما ستخبرني كيف رسمني الآخرون منذ أول نسمة هواء استنشقتها إلى آخر نفحة ألمِ زفرتها ؟ نولد صفحات بيضاء . ثم يمارس الآخرون هواياتهم على بياضنا .. لا نلبث أن نتحول إلى فسيفساء من صنعهم .
ــ ابتسم , ألا تريد أن تعود بذكرى سعيدة من هنا . انتشلني صوتها الهادئ من وحل أفكاري .
ــ أفضل أن ترسميني كما أنا .
كان طلبها ( أن أبتسم ) ليس لأعود بذكرى جيدة , بل لتسهل على نفسها مهمة الرسم . حينما طلبت ابتسامة أدركت أنها رسامة بارعة , كانت تعرف أن رسم وجه ـ كما هوـ يعني رسم آلاف الوجوه في وجه واحد .
انهمكت في الرسم و أرسلت عينيها تغوص في لجة وجهي , شعرت أنها تخترقني . تتوقف متفحصة زواياي الغامضة , إذا قبضت على ملامح هاربة قتلتها بفرشاتها . كانت عيناها تشي بأنها تتمشى في أزقة وجهي .
وضعت فرشاتها جانبا و ارتاحت قليلا . تنفست ببطء , كان واضحا الإرهاق على وجهها . قطعت الورقة و أعطتنيها . كانت لحظة مجنونة . كيف سيكون وجهي ؟ نظرت إلى الورقة , إلى وجهي .. لم أستطع أن أرفع عيني . أعطيتها أجرتها مضاعفة دون أن تلتقي عينانا!