شرق الرياض - غرة أغسطس / 1990 م
استيقظت مفزوعاً .. ساره تصرخ :
الحرب ..!
::
سأثرثر بالآتي .. ليس توثيقاً .. ولا استقراءاً لقطعة من زمن ..
بعيداً عن التنميق أدبياً / فكرياً ..
بلا صفصفة أو ترتيب .. كـ حديث ثمل ضيع طريق عودته ..
هي ثرثرلوجيا وحسب ..
::
تفوح رائحة الحرب ..
مع أن البدوي النحيل الذي يدعى (( فيصل )) تيمناً بالملك الصارم
لم يكن يعرف (( وش السالفة )) فعلاً ..
إلا أن كل شئ في ذلك الحي السيئ كان يتهيأ ..
تقرع (( بق بن )) أجراسها .. موسيقى مهيبة تقتلنا ترقباً
ثم صوت المذيع اللندني الرخيم :
(( سيداتي وسادتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
الواحدة تماماً في لندن ..
قال متحدثون رسميون أمريكيون أن سبعة وعشرين جندياً أمريكياً قتلوا
بفعل صاروخ سكود العراقي الذي ضرب شرق المملكة العربية السعودية ... ))
لازالت ذاكرتي - التي ربما ستخونني لاحقاً - تحتفظ بتفاصيل ذلك المشهد :
راديو كنا نطلق عليه (( الرادو الروسي )) .. ضخم ..
يلفة إطار خشبي وتسكن جانبه الأيمن
قطعة سوداء للتحويل بين قنوات الراديو
ربما سأثرثر لاحقاً عن دهشتي بمئات القنوات الإذاعية
التي مثلت كافة الأطياف الفكرية المعروفة
والغير معروفة .. وحوت كل الأديان التي يعتقد بها البشر .. وغير البشر ..!
كان هذا الراديو نافذة غير متوقعة .. وفضاء لذيذ .. امتلاء ..!
لا زلت أذكر قنواتي المفضلة إذاعة لندن العربية /الكويت / القاهرة /
قناة مصرية مسيحية ثرثارة - كـ حالتي - لا تنفك عن ذكر المعمدان / يسوع / ومتّى..
إلخ من بقية هرطقات أبناء العم ..
ولكم أن تتخيلوا هذا البدوي القادم من أقصى نجد وهو يستمع لـ
(( بصوتي إلى الرب أصرخ .. في يسوع كل الحياة ))
بينما أقرانه يستمعون ترانيم (( أنا ودي إذا ودك ..ياليت سوق الذهب يفرش حرير )) ..!
المهم :
أثار الشرير / سكود ذعر سكان الرياض بشكل عام والشرق منه بشكل خاص ..
النسيم / الروضة / السلي / النظيم وغيرها
أصرت ساره - أمي المقدسة - على ذلك الضابط العتيد بالحرس الملكي
أن نغادر للقصيم ..
وللقصيم قصة ..
أذكر عندما كنت صغيراً كان القصيم لي بمثابة الجنة ..!
لكم أن تتخيلوا كيف لطفل يرى بمجموعة من الرمال ولعنات الصحراء وجيوش البعارين .. جنة ..!
كانت الليلة السابقة لسفرنا للقصيم كفيلة بأن يفر النوم من عيني ..
وأتمنى لو كان الصباح شيئاً أستطيع جرّه ..!
::2::
الضابط العتيد - آنف الذكر - هو أبي رحمه الله ..
كان صارماً .. ترتسم على يديه مئات الأحداث والتجارب ..
لازلت أذكر كيف كان يحكي لنا تفاصيل ماحدث بالقصر الملكي أواخر حكم الملك سعود
وأحداث المربع الدموية .. وأشياء أخرى
أصرّ أبي على البقاء بالرياض .. سمعته ذات مره يقول :
(( يابنت الحلال .. ماراح يجيتس أمرّ من تمره ))
ولغير الناطقين باللهجة النجدية تعني :
لن يحصل لكِ مكروه أيتها المرأة ..!
قبل قليل أستعنت بالصديق قوقل للبحث عن (( ماراح يجيتس أمرّ من تمره ))
فـ وجدت :
أنها شائعة باللهجة الليبية ..!
أبي .. سأسامحك إن أخبرتني الآن وبصراحة :
هل أنت ليبي ..!
مع أصرار الجميلة ساره ولظروف عمل أبي قرر أرسالنا لجنتي الصغيرة
القصيم / الرس ..
لكن هذه المرة لأجلٍ غير مسمى ..
لا أعتقد لحظتها أن أحداً كان سعيداً كما كنت ..
لملمت أشيائي الصغيرة بتلك الشنطة المرقطة ذات الأرقام السرية
التي تستطيع فتحها بـ (( سكروب )) ..!
لا زلت اتساءل : (( طيب ليه هالأرقام السرية )) ..!
أشيائي الصغيرة كان عبارة عن ثوب .. وثوب وبينهما ثوب ..
أما ساره فـ كانت تحمل لي معها بنطلوناً أزرقاً أنيقاً
بحمالات وتيشيرت أصفر ..
أمي .. استيقظي الآن وأخبريني :
هل كنتِ نصراوية ..!
صفصفنا تلك الشنط الغبية استعداداً للسفر ..
::3::
كنت على وشك الاختناق ..
فجأة :
الأب لايريد مني الذهاب هناك
فهو بحسب رأيه يحتاجني ..
لا أذكر حقاً كم من الغيظ حوته روحي الصغيرة آنذاك ..
لم أصرخ أو أحاول حتى ..
بلعت الغصة .. وكفى .. (( هي خصوصية سعودية بالمناسبة )) ..!
غادرتني أمي .. أودعتها رائحتي .. لتعانق بها جنتي ..
بعد سفرها بيوم .. لم تعد حارتنا لها طعم .. فقدت لذتها الصحراوية ..
أحسست تلك الأيام أن الرياض كانت أشبه بـ قبر يتسع للكل ..
مع أنها الآن : قبر (( إسمنتي )) يتسع للكل ..
كنت متكئا ً بزاوية الحوش .. أرسم أحلاماً حانقة على التراب ..
الزوايا هنا كانت قاحلة .. (( وكأن الرياض الآن تغرق بالأخضر )) ..!
قاحلة من كل شئ .. حتى النساء ..
لا أعلم أين ذهبن الفتيات .. لا أرى إلا (( عِجْز ))
يقمن بالزيارت المتبادلة كل عصرية ..
يتحدثن بكل شئ ..
السياسة/ شؤون المرأة / الفن / غرق المدمرة البريطانية (( شيفيلد))..!
صغر سني حينها وبراءتي الموسومة بين عيناي تسمح لي بالتواجد بينهن
فلا يتوجسن خيفة مني .. حقيقة لم أكن بريئاً بالمعنى الصحيح
بل شيطاناً صغيراً .. كانت دروساً نسائية مجانية ..
كنت مستمعا جيداً وصابراً جداً .. وإن تظاهرت باللامبالاة .. ومثلت دور الطفل ..
كانت الجوهرة - أختي الكبرى - تهم بزيارة جارتنا المريضة ..
(( كسرت خاطرها جدا )) عندما لمحتني حانقاً .. صرخت بي من على البلكونة :
فصول .. تبي تخاويني لجارتنا العجمية ..!
أنا : (( وقد برطمت )) : مااابي ولا أحد يكلمني ياملاعين ..!
هي : يالله بس مشينا .. عندهم كيك (( أبو كاس )) ..
كيك أبو كاس كان بمثابة التراميسو هذه الأيام ..
ما أن سمعت ذلك حتى تلاشت برطمتي ..
دلفنا بيت جارتنا.. كانت دلفة عن ألف دلفة مما تعدون..
الكثير من النساء .. وروائحهن .. لم تكن باريسية بالطبع ..
الجوهرة (( مقاطعة ً حبل اندماجي )) : تعال .. (( حبّ )) رأس عمتك أم نايف ..
أقتربت .. لثمت رأسها المليء بالمشاط .. (( المشاط شبيه بالحنا )) ..
رح حبّ راس أم محمد .. حبّ .. وحبّ .. وحبّ ..
أشتغلت ذلك اليوم مكينة تفريخ بوسات ..
(( الرجال تحارب على الجباه .. وأنت تقبل الجباه .. أيها الفاسق )) ..!
لرائحة شعر النساء فلسفة لا يفهمها إلا الضليع .. كـ حالاتي ..
فـ من تهتم برائحة شعرها هي ببساطة : أنثى فاخرة ..
كانت الحرب تسيطر على ثرثراتهن .. وترسم حلطماتهن :
(( شفتي صدام عساه الصاروف / يالله - ياوخيتي - يستر على عييّلينا /
يا صهّاد الظالمين )) ..
الترجمة :
أرأيتِ صدام .. قاتله الله / أختي : اسأل الله أن أحفظ أبنائنا / ياقامع الظالمين .. !
كنت أنتظر كيكة أبو كاس
وليذهب أبو عدي .. وأم نايف .. ونورمان شوارسكوف للجحيم ..
انتبهت الجوهرة لهذا وربما لتكافئني على مجهودي (( التبويسي )) العظيم ..
قالت :
تعال فصول .. خذ .. وأطلع ألعب برا مع العيال ..
يالغبائي .. من يبّدل أحاديث النساء بـ كيكة بنصف ريال ..!
يُتبع
.
.
.