هذيان أنيق أو فلسفة مجاورة

لأنني بحاجة ماسة لتفريغ ما بتفكيري من صخب
ولأنني الآن قرَّرْتُ أكثر من أي وقت مضى أن أكون ( أنا ) فقط , خالياً من كل الشوائب والعوالق ، وأردت أن أعود إليَّ ناصع الذهن
فقد كان لزاماً أن أنفذ إلى عزلتي من أي نافذة ممكنة أو باب أو ثقب أو حتى مسام
كي أصل إلى هنا
حيث المَطـَـلُّ الذي أبصرني منه بوضوح غير مسبق
– فالعزلة هي المكان الوحيد الذي تستطيع منه رؤيتك بكل أبعادك وبشفافية تامة
وأن تستعيد ما تسرب من ذاكرتك إلى النسيان
هي الجهة الخامسة من الجهات الأصلية
بل أكاد أجزم يقيناً بأنها الجهة الأصلية الوحيدة
لأنك تـُطِلُّ منها إلى كل جـِهَاتِك –

أنت الآن – بهذا الاستطراد – تشدُّك ببطئ إلى هذيان أنيق ، أو فلسفة مجاورة.
- ما شأنك بالعزلة ونظرياتها المُقـْترحة ؟ أم أنت سفسطائي ؟!
- حسناً سأعود :
وكذلك لأنني بالضرورة شاعر ، أو هكذا كان قدري
فقد أصبح لزاماً أن أُصَيِّرَ كل الفضلات الدماغية إلى كلام صلصالي
لأشَكـِّـلَ منه قصيدة / نصاً استثنائياً / بوحاً عميقاً ، تفتنك أيها القارئ .
- يا إلهي .. هناك من يفتتن بحزني وآهاتي إذن
- لا عليك ، فالعملية تكاملية كما يزعمون
ربما كانت " أليس سلوم " على حق عندما قالت : ( الحزن محبرة القصائد )
ربما كانت تقصد أيضاً أن العزلة هي الورقة التي تستمطر تلك المحبرة
– ربما كـَتـَبَتْ ذلك بحبر أفكارها فخذلها النسيان عن أن تسطرها ، أو ربما هي أرادت ذلك –
لذا .. فأنت عندما تكتب حزنك تشعر بنقائك
- أنت شاعر أم ثرثار؟!
- اخرج أيها الوقح ، واتركني أهذي كيفما أشاء ، فأنت لا تجيد سوى التسكع في طرق مرسومة المعالم مسبقاً ، دعني ألهو تحت مظلة هذياني , فلعلها ستهطل حرفاً بريء الملامح ، وبإحساسٍ ووجه مختلفين..
( هكذا مازلت أناجيني طوال النص ) .

لماذا نُجْبَرُ – نحن الطيبون ومن تلقاء ذواتنا – على تحمل أوزار الغير بالرغم من استطاعتنا أن نتنصل حتى لأوزارنا ؟
تعريف الشفقة : سذاجة غير مُبَرَّرَة .
مفهوم آخر: إحساس زائد ، يُـصَـيِّرُنَا هدفاً للآخرين ، وفسحةً لمثالبهم .
رؤية : الابتسامة في وجه أخيك حماقة ، وفي وجوه الآخرين سخافة .
تـَجَهَّمْ ، لا تـُفـْـش السلام إلا لِحَاجَة , لا علاقة لك بكل ما حولك سواك .
هكذا تصبح رجلاً متحضراً .
- متكبراً وأنانياً تقصد..
- أنت متخلف ورجعي ، عد إلى حيث أنت
( يبدو أنني لستُ متناسقاً )

يا لهذا الصخب بأعماقي ، يتبعني كظلي ، يشتتني في متاهات الفكرة الواحدة ، فأبدو في الحضور غياباً ، وفي وحدتي مُجَالـَساً ..
حتى ليكاد يفسد عليَّ عزلتي هذه ..
تـُرَى .. من أي ناحية منـِّي أستقي هذا الصخب؟!
من أي زاوية تباغتني هذه الأصوات وهذي الرؤى حتى وأنا هنا بمفردي ؟!
هل أصِبْتُ بـِمَسّ ؟! أم أنها تتسلل من الأزمنة وتتبعني؟!
ربما هي السنوات ، حين ظللنا – نحن المشغوفون بتسلطها – نظن بأننا حين نـُوَدِّعُ دقائقها ستزول بكل وجوهها ، لكن ملامحها – ورغماً عنا – تـَتـَرَسَّبُ بذاكرتنا وتـَعْـلـَقُ بها حتى تجف , فتعبق روائحها حيث ومتى شاءت وشئنا ، وحيث لم نشأ ..

( مجرد تخمين كتلك الفرضيات التي تحتمل الصواب وعكسه )

مرةً .. قال لي صديقي : إن الوقت لم يعد ذهباً ، ولا فضة , بل صار تراباً ، أو أدنى وأكثر.
يبدو أن صديقي كان مُحِقــًّا ، كل شيء صار جائزاً بعدما أزلنا الأسلاك الشائكة من حدود المُحَرَّمَات علينا والمَحَاذِير، ظناً منا بأنها انـْتِصَارٌ للحرية.
لم تعد للحياة عُمْـلـَتـُهَا – أعقب صديقي – بعدما أهملنا بورصة الوقت ، حتى انهارت ، فصار كل شيءٍ لا شيء.

- هل ما زلتُ ( أنا ) الذي كـُنـْتـُهُ قبل الأسطر الماضية ؟!
أنا الآن بحاجة – أَمَـسُّ من ذي قبل – لأن أنـْـفـُذَ من عزلتي / لأن أكون الذي كـُنـْتـُهُ فيما مضى
ربما كان ذلك الصخب مِلـْحاً أتذوق به الوقت كلما أحْسَسْتُ بعدميته .
الآن .. لم أعد أريد أن أكون ( أنا ) الذي أرَدْتـُهُ سابقاً أن يكون
ولكنني فقط .. أريد أن أعود ( أنا ) الذي كـُنـْتـُهُ سابقاً .


ديحمة – الخميس 2/4/1431هـ