لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: في رحيل الأستاذ علي الأهدل ذَاكِرَةٌ (تجود من جانبين)

مشاهدة المواضيع

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية أحمد الأهدل
    تاريخ التسجيل
    04 2010
    المشاركات
    1

    في رحيل الأستاذ علي الأهدل ذَاكِرَةٌ (تجود من جانبين)

    في رحيل الأستاذ علي الأهدل

    ذَاكِرَةٌ (تجود منجانبين)









    علوان مهديالجيلاني



    نقلاً عن صحيفة الثورة ، صنعاء، 10جمادى الأولى 1431هـ، الموافق 24ابريل 2010م، العدد(16600)

    قولوا لعلوان إن والديمات.....
    هكذا قالت رنة هاتف تلقتها زوجتي من صديقي المقدم طيار الحسين بن عليالأهدل، كان الوقت قد قارب منتصف الليل أو تجاوزه..أيقظتني بحذر مرتعش.. ثم ما لبثتأن ألقت بالخبر وهي تنسحب بعيداً وكأنها تتخلص من حمل ثقيل.
    كان يفترض بي أن أتصل فوراً بالحسين ثم صديقي الدكتور علي الأهدل.. ثم.. وثم... ذلك ما يمليهالواجب، ولكني لم أفعل شيئاً من ذلك، فقد غمرتني سحابة ذكريات وشجون من ذلك النوع الذي تحب معه أن تنفرد بنفسك.. أن تتحدث إلى ذاتك وتعزي روحك وأشواقك... قبل أنتعزي أحداً آخر.. ثم إن العزاء في رجل كالأستاذ علي الأهدل يجب أن يتوجه إلى كل الناس وكل مفردات الحياة.. إلى العلم والدين والأدب والثقافة، وأهم من ذلك إلى تراثنا الشفاهي الذي يضيع... وتتربص به العقول الصغيرة الحاقدة كل يوم.. إلى جهود الموثقين التي أضناها التعب.. وأسقمتها الخذلانات المتوالية.
    هكذا يغدو رحيل الأستاذ علي الأهدل جراحاً مناسبة لتنكيء جراحات كثيرة.
    ***
    ولد الأستاذ عليالأهدل في تهامة (دير أبكر، مديرية القناوص، محافظة الحديدة في 10/6/1354هـ،الموافق 8 سبتمبر 1935م.
    وتعلم القرآن الكريم على يد والده، الذي كانت صامطة (جنوب جيزان) إحدى محطات إقاماته، ثم انتقل معه إلى جدة عام 1374هـ (1954م) حيثأقام معه هناك سنتين ثم رجع إلى صامطة والتحق بمعهدها عام 1377 هـ(1957م) وتخرج منهعام 1381 هـ (1961م) بعدها التحق بكلية الشريعة في (مدينة الرياض) عام 1382هـ(1962م) طالبا منتظماً وأمضى بها سنة قبل أن يحول إلى طالب منتسب نظراًللحاجة الماسة إلى مدرسين آنذاك حيث عين مدرساً في معهد المجمعة (شمال مدينةالرياض) عام 1383هـ (1963) ثم عاد إلى (صامطة) مدرساً بمعهدها وحصل على الشهادةالجامعية انتساباً عام 1385هـ (1966م) وظل منذ ذلك التاريخ يدرس في معهد صامطة حتى عام 1395هـ (1975م) عندما نقل إلى (معهد نجران) مدرساً من عام 1396هـ (1976م)إلىعام 1411هـ (1990م) ثم انتقل إلى معهد قنا(شمال جيزان) وبقي فيه مدرساً حتى أحيل إلى التقاعد سنة 1418هـ (1997م) بعد أربع وثلاثين سنة قضاها معلماً ومتنقلاً في تلكالأرجاء التي ذكرناها( ).
    ولم تخلُ السنوات الاثنا عشرة الأخيرة من حياته بعد التقاعد من نشاط ثقافي وعلمي ظل يمارسه رغم إيغاله في السن ومعاناته من النكسات الصحية المتوالية... فقد بقيت مجالسه ضوءاً ينير عقول مجالسيه من أصحاب ومريدين وطلاب فائدة...حتى رحل إلى جوار ربه.. صباح يوم الجمعة 2 جمادى الأولى 1431هـ،الموافق 16 ابريل 2010م... وقد جاوز الخامسة والسبعين من عمره المعطاء.. تخرج على يديه خلال سنوات طويلة من هذا العمر أجيال من المدرسين النابهين.. والمثقفين والكتاب البارزين.. وتعلم منه بالصحبة والمجالسة والمعاشرة العشرات.. كان عصامياً في تلقي العلم.. وعصامياً في أداء رسالته.. زاهداً في جني ثمار علمه بكافة أشكالها مادية ومعنوية.
    لم يكن الأستاذ علي الأهدل مدرساً عادياً..مجرد مدرس، ولم يكن تحصيله العلمي مجرد شهادات فقد كان عالماً موسوعياً.. بارعاً في أكثر من مجال.. وفي رحلته الطويلة مع التدريس ونشر العلم درس مواد وعلوماً نادراً ما كان بوسع معلم أن يضطلع بها.. فقد درَّس كما يقول تلميذه وصديقه الأديب هادي محسن مدخلي: (جميع المواد وأحسن فيها كما يحسن المتخصصون.. فكان أستاذاً للشريعة واللغة والأدب والخطوالعروض والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم)( ) بل لقد بلغ من حذقه في علم العروض أنه كان (يقطع الأبيات الشعرية عروضياً تقطيعاً عكسياً) ( ).
    وكانالأستاذ علي الأهدل إلى جانب ذلك شاعراً موهوباً، ولكنه مع الأسف الشديد سيذكر دائماً في عداد الشعراء الذين أهملوا شعرهم ولم يعتنوا بجمعه وتوثيقه والاشتغال عليه ونشره.. وما بين أيدينا من نماذج قليلة من إبداعه تخبر عن شاعر متمكن صاحبموهبة متميزة (ستكون لنا وقفة مع شعره في الأيام القادمة إن شاء الله).. أما علمه بالشعر رواية وعروضاً فحدث عن البحر ولا حرج .
    كان الأستاذ علي الأهدل – بتعبيرآخر -رجلاً ضخم الوجود كثير الموجود... أعني أن وجوده كان من ذلك النوع الذي يفيض عن نفسه.. ليسقي الآخرين بكل أريحية.. كان شجرة كبيرة وارفة الظلال.. طيبة الثمر،تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. علماً وأدباً وثقافة وديناً، وخلقاً ومحبة وحسن صحبة... وقدرة على العطاء..
    الأستاذ علي الأهدل الشاعر المتمكن، وأعجوبة العارفين بعلم العروض... كان عميق العلم بالتراث بشقيه الفصيح والشفاهي.. وقد أعطاه الله حلاوة الحديث وجاذبية السرد والإلقاء.. أو ما يسميه القدماء حسن الإيراد..
    حين تجلس إليه تشعر أنك أمام كنز ثمين من إنسان قليلاً ما تجد له مثيلاً.. كان بتعبير مبارك بكير شاعر تهامة الأسطوري (يجود من جانبين) فصيحاً وشفاهياً.. بل إذا أردنا الحقيقة فهو يجود من عدة جوانب.. وسمة (حسن الإيراد) التيذكرتها من ضمن سماته تمثل الحلية التي كانت تتحلى بها كل تلك المواهب التي رزقها ذلك الرجل..
    ما تعرفه أنت من التراث العربي الفصيح.. حفظاً ورواية حتى لتعتقد أن نديمك يجب أن يسمعك تحكيه لا أن تسمعه أنت... سيرويه لك الأستاذ علي الأهدلبطريقة تشعرك أنك تتعرف على ذلك المروي لأول مرة... فهو قادر دائماً أن يقدمه لك بأسلوب مختلف جيد الوضوح، سهل المعاني.. وهذا ما كان يحدث مراراً.. ولي معه فيه تجارب بالغة اللذة والإمتاع.. مثلاً التقيت به سنة 1996م في منزلتنا بالجيلانية.. كان في ضيافة أبي بالطبع.. لقاؤه بأبي استدعى فوراً الحديث عن الذكريات القديمة... والذكريات القديمة كانت جزءاً مما بيّتُّ أنا وإخوتي جرجرته إليه..
    أول الذكريات القديمة حضوراً كان موضوع الخيل.. وهو من المواضيع الأثيرة عند والدي الذي كان خيالاً يملك عدداً من الخيل حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين... الأستاذ علي الأهدل كان أيضاً خيالاً وإن كان أكثر اعتداداً بتجربة والده المعلم شوعي حاج رحمه الله.. الذي كان فارساً وشاعراً ذا حضور جذاب يسلكه في عداد الشخصيات التي لاتنسى..
    ذكريات الخيل وطبائعها.. والقصص والحوادث المرتبطة بها تحيل دائماً إلىالتراث بشقيه الفصيح والشفاهي.
    في خبايا الذاكرة جواهر كثيرة.. قال أبي: إن مهره لم يكن يتجاوز الزُّبُرَ (الحواجز الرملية) قافزاً كما تفعل سائر الخيل.. التي تكاد تُوقِعُ في قفزها الخيالين عن ظهورها.. كان مهره لا يُشعر الخيال بتجاوز الحاجزبالمرة لأنه لا يقفز بل يمتط (يمط ظهره) كما يمتط الحزام الأستك... قال والدي ذلك فطرب الأستاذ علي الأهدل طرب العارف الخبير.. وبدأ ينشد قول المتنبي:
    سِرْبٌ مَحاسِنُهُ حُرِمتُ ذَوَاتِها داني الصّفاتِ بَعيدُ مَوْصوفاتِهَا
    أوْفَىفكُنْتُ إذا رَمَيْتُ بمُقلَتي بَشَراً رأيتُ أرَقَّ مِن عَبَراتِهَا
    يَسْتَاقُ عيسَهُمُ أنيني خَلفَها تَتَوَهّمُ الزّفَراتِ زَجرَ حُداتِهَا
    وكأنّها شَجَرٌبَدَتْ لَكِنّهَا شَجَرٌ جَنَيتُ الموْتَ من ثمَراتِهَا
    لا سِرْتِ مِن إبلٍلوَانّي فَوْقَها لمَحَتْ حرارَةُ مَدمَعيّ سِماتِهَا
    وحمَلتُ ما حُمّلتِ من هذي المَها وحَملتِ ما حُمّلتُ من حسراتِها
    كان ينشد بفرح وعذوبة.. وقدرة على إيصال المعاني.. ينشد وهو يجول بعينيه في وجوهنا ...غالباً ما كان يتوقف قليلاً عندي... كأنما ليقول لي: اسمعني أنت بالذات.. وحين وصل إلى قول المتنبي، يصف فروسية ممدوحيه وجودة خيلهم، وطول العلاقة وحسن العشرة بينهم وبين الخيل:
    أقْبَلْتُها غُرَرَالجِيادِ كأنّما أيْدي بَني عِمرانَ في جَبَهاتِهَا
    ألثّابِتينَ فُرُوسَةًكَجُلُودِها في ظَهْرِها والطّعنُ في لَبّاتِهَا
    العارِفِينَ بها كَماعَرَفَتْهُمُ والرّاكِبِينَ جُدودُهُمْ أُمّاتِهَا
    فكأنّما نُتِجَتْ قِياماً تَحْتَهُمُ وكأنّهُمْ وُلِدوا على صَهَواتِهَا
    قال: هذا هو المعنى.. إن وصف أبيك لمهره يدل على ألفة وصحبة عميقة بينهما... وهذا ما قصده المتنبي.. جودة المهر وجودة راكبه.. وطول الصحبة بينهما إذا اجتمعا.. ترى منهما العجب العجاب.
    ابتسم قليلاً وتوقف.. قبل أن يستطرد إلى مقاربة أخرى لقول المتنبي من نفس القصيدة في وصف جري المهر:
    لوْ مرّ يَرْكضُ في سُطورِ كتابَةٍ أحْصَى بحافِرِ مُهْرِهِمِيماتِهَا
    قال مبتسماً ابتسامته الفياضة بالبشر والنقاء: انظر كيف خص الميمات بالذات دون غيرها من الحروف، خصها لأنها مستديرة كاستدارة حوافر الخيل... لقد عاببعض النقاد على المتنبي تشبيه حوافر الخيل بحرف الميم لأنه كان في قصيدة أخرى قدمدح سيف الدولة وشبه حوافر المهر بحرف العين عندما قال:
    أول حرف من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد
    يقصد حرف العين.. وهو الحرف الأول من اسم سيف الدولة (علي بن حمدان).. وقد فات النقاد أن المتنبي كان ذكياً حين اختار حرف الميم في هذا المقام؛ لأن حرف الميم في الكلام أكثر وروداً من حرف العين، ولأن حرف الميم أصغر من حرف العين، والمتنبي يذكر الإحصاء في بيته، فالتشبيه بالحرف الأكثر وروداً والأصغر رسماً يكون في المديح أقوى من التشبيه بالحرف الأقل وروداً والأكبر رسماً وهو يمدح ممدوحه بالإحصاء في حالة الركض؛ لأن الإحصاء يدل على ثبات الجأش، وقوةالتركيز رغم الحالة التي هو فيها.
    ثم استطرد في كلام كثير.. كان خلاله ينصحني بالعودة إلى عدد من المراجع القديمة.. أذكر منها (يتمية الدهر) للثعالبي..
    كنت مندهشاً فلطالما زعمت لنفسي ألا أحد قد عاشر هذا التراث معاشرتي له... أشعرني فهمه لشعر المتنبي بمدى قصوري شخصياً وقصور المثقفين والكتاب والأكاديميين مقابل طول وعرض ادعاءاتهم..
    كان الرجل لا يتدفق بذلك العلم الغزير متشدقاً ومستعرضاً بل يلقيه بحلاوة وبساطة وكأنه قد اعتاد كثيراً أن يُفهم منادميه دلالات ما يلقيه عليهم بهذه السهولة والعفوية...
    شعرت ليلتها أن مغاليق كثيرة تتفتح لنا حين نربط النصوص بتجاربنا مع الحياة والبيئة وجيراننا فيها.. وأن أكثر ما نعانيه مع هذا التراث هو أننا نقرأه بوصفه شيئاً منفصلاً عن خبراتنا ومعارفنا اليوم.. ولذلك فإنني كثيراً ما قاطعته تلك الليلة ملحاً عليه في ضرورة الكتابة.. فيما كان هو يبتسم ابتسامة تريد –ربما- أن تقول: لقد فات أوان هذا يا بني.
    ***
    ما أحببته منقدرة الأستاذ علي الأهدل على كشف خبايا ودلالات النصوص الشعرية القديمة من تراثنا الشعري الفصيح لا يساوي شيئاً بجانب الحكايا والقصص الشعبية المتعلقة خاصة بالمنطقة والنصوص الشفاهية المرتبطة بها... والتاريخ الشفاهي المتمثل فيها جميعاً.. بدءاً منشاعر تهامة الأسطوري مبارك بكير... وزربة.. والنهاري حسن.. وسعيد أعمى.. مروراً بعفن والعقبي.. وانتهاء بامناجي ثواب... والنهاري امحمد... واموسي... وقفلة وغيرهم مع معرفة مبهرة بالأمكنة والبيئات.. وقدرة مدهشة على استخلاص المعارف التاريخية والدلالات الاجتماعية والثقافية والسياسية منها.. على أن الأجمل من كل ذلك قدرته على تحبيب النصوص إليك بطريقته المتمكنة في إلقائها إلقاء جميلاً لا يحبب إليك النصف حسب بل إنه يكشف لك بتلقائية وسهولة عن أكثر معانيه ودلالاته.
    أتذكره جيداً ينشد شعر امبارك بكير الشهير في مدح البني صلى الله عليه وسلم:
    حَثّ َالبرقْولَه" ماطِرُ

    وَلاَ صْحِي مَثْلَبَهْ

    يْجُودْ مِنْجِاْنبَينْ

    في الشّامْ مدّخِّلُ

    قُمْ خايْلَهْ وانْتَبِهْ

    لَهْ قَلْصْ عَاليْ يِبينْ


    ثُلْثَ اللّيْلْ واللّيْلْ آخِرُ


    غَيْثَ الهنا يَسْكُبَهْ

    والنّاسْ جِمِيْعْنَا يْمينْ


    حِدْ مَاطِره نْازِلُ


    شَقَّ السَّما لاهِبَهْ


    مِن فَوقْ قَبرَ الأمِينْ

    طهَ النبي الأنورُ

    ناغْنيِتْ واسعدتْ بهْ

    جدَّ الحسنْ والحسينْ

    وأتذكر كيف كان يقف على قافية الهاء الساكنة في شطر الزنجير الأوسط:
    وَلاَ صْحِي مَثْلَبَهْ
    قُمْخايْلَهْ وانْتَبِهْ..إلخ
    الذي صنعه شاعر المنيرة اموسي لقصيدة بكير.. وكيف كان أداؤه يُخْجِلُ في سرّنا طرائقنا المشوّهة والمتلكئة بل السمجة التي كنا نستظهر بها نصوص الشعر الشفاهي القديم، خاصة ذلك الذي غناه شعراؤه قبل أكثر من مائة سنة..
    سبق تلك الليلة في منزلتنا بالجيلانية ليلة قبلها. قيّلنا فيها وسمرنا عندالأستاذ علي الأهدل في دير ابكر بحضور عدد من الأدباء والمثقفين والعلماء... منهم: أخوه الدكتور عبدالله مالك الأهدل أستاذ علوم القرآن في جامعة الحديدة.. والأستاذعلي محمد الأهدل التربوي الكبير والراوية المحنك...والأستاذ أحمد الوجيه.. والشاعريحيى مناجي ثواب (رحمه الله) والشاعر أحمد سليمان، وأخي إبراهيم رحمه الله، وعددكبير من الناس..
    بالنسبة لي فقد كانتا ليلتين فاصلتين في علاقتي بالتراث الشفاهي... من ذلك الحين ستبدأ قصتي الحقيقية مع هذا التراث الذي تم لي فيه حتى اليوم إنجاز عدد من الكتب كان للراحل الكبير حظ عظيم من الحضور فيها.. فقد تسنى ليلقاء آخر به صيف عام 2000م حين جاء إلى أرض الوطن لتزويج بعض أبنائه... ولعل إلحاحيعليه في الكتابة واقتناعه باختمار الفكرة تماماً في رأسي.. حفزه كثيراً لمساعدتي.. ففي صيف سنة 2001م وبينما كنت أرافق والدي في غرفة العناية المركزة بمستشفى الثورةالعام بالحديدة.. بعد أزمة قلبية ألمت به.. فوجئت بالصديق الدكتور علي الأهدل (ابن أخي الأستاذ علي الأهدل) يسلمني ظرفاً.. فتحته فوجدت فيه كنزاً حقيقياً لا يقدربثمن.. كان الكنز المرسل يضم مجموعة من النصوص المروية بإتقان مع مقدمات قصيرة توضح خلفياتها.
    كانت النصوص للشعراء مبارك بكير، والنهاري حسن، وسعيد أعمى، وزربة،وامناجي ثواب، واموسي، وقفلة، وعفن والعقبي... والمعلم شوعي حاج (والد الأستاذ علي) ونصوص أخرى من فن الطارق..يمثل كل منها لوحة إبداعية خالدة.. كل ذلك مع رسالة.. يعتذر فيها عن التقصير.. ويتمنى لي النجاح في إنجاز مهمة التوثيق.. مع نصائح بالجدوالاستقامة (رحمه الله).
    مجرد إلقاء نظرة على نصوص الكنز المرسل تُبين لكل منيمتلك قدراً من المعرفة بالبحث العلمي وشروطه أن الأستاذ على الأهدل كان جيد الفهم والدراية فطرة وعلماً.. فقد كان حريصاً على ذكر الرواة الذين روى عنهم.. وكان أكثر رواته ممن ماتوا منذ زمن بعد أنأسنّوا.. فأعطى بذلك المنحى قيمة إضافية للنصوص تُضَمُّ إلى قيمة كونه هو راويها مع ما هو معروف عنه من دقة وتحرٍ وحرص علىالصواب.
    من زاوية أخرى شديدة الأهمية.. كانت النصوص التي أرسلها بمثابة مختاراتهمن مروياته.. إذ هي في الغالب الأكثر اكتمالاً ووثوقية فيما يرويه.. كما أنها كانت نصوصاً متميزة في منجز شعرائها وإبداعاتهم.. ولذلك فإنها كانت من أكثر النصوص التي تشكلت منها تجربتي في توثيق ودراسة التراث الشفاهي بوصفها جزءاً مهماً في عملية التوثيق والدراسة اللتين ظهر بهما كتابي (امناجي ثواب.. وكوميديا الألم) الصادرمطلع عام 2008م.
    والأهم من ذلك بوصفها النواة الحقيقية لكتابي (بكير شاعر تهامةالأسطوري) الذي سيصدر قريباً.. في مجلد ضخم.. والذي أهديته للأستاذ علي الأهدل تأكيداً على فضله علي في هذا الجهد الذي يجمع بين الدراسة والتوثيق.. والذي كنت أتمنى أن يمد الله في عمره حتى يقرأه.
    ثم إن فضل الأستاذ علي الأهدل لا يتوقفعند ما ذكرت.. فمجموعة من النصوص التي أمدني بها قد تمت الاستفادة منها في كتب توثيقية أخرى.. منها كتاب (ارتجال الوجود) بجزأيه الأول والثاني.. وكتاب (سود معمى أو الغناء بضمير الجماعة) هذا على سبيل المثال لا الحصر.
    على أن الاستفادة منهلم تقتصر على كنز مروياته الثمين الذي أمدني به ولكنها تعدته إلى طريقة التعامل معالنصوص والحكايات والأحداث المرتبطة بها... فقد كنت أقارب تلك النصوص مستحضراً على الدوام طرائقه في قراءتها والوصول إلى معانيها وما تؤشر إليه خطاباتها من دلالات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية..
    مع ذلك فإن كل هذه الاستفادة من كنز الأستاذ علي الأهدل ومن طريقته في التعامل مع التراث الشفاهي لا تنفي شعوري إزاء رحيله بغصتين كبيرتين لا أدري كيف أعبر عنهما:
    الغصة الأولى: أنني لم أستطع الاستفادة منه كما أتمنى –لم أستطع الاستفادة منه لتقصير أعترف به.. ولصعوبة الوصول إليه في مستقره بمدينة صامطة الذي كان قريباً بحساب المسافة.. بعيداً حسب شروط إجراءات السفر-لم أستطع الاستفادة من الأستاذ علي الأهدل واستقطار ذاكرته كما يجب.. فما حصلت عليه منه (على أهميته التي أوضحتها) كان مجرد قطرة من مطرة... ما حصلت عليه منه قياساً على مخزونه الضخم يمكن تشبيهه بما يأخذه منقار العصفور من ماءالمحيط.. لذلك فأنا أعلن بأسف شديد موت ذاكرة كبرى من ذاكراتنا... ذاكرة غير عادية تختفي اليوم من دنيانا لتضاف إلى مئات الذاكرات التي لا نملك إزاء اختفائها إلاالحسرة وعض أصابع الندم...
    أما الغصة الثانية: فتتمثل في رحيله.. أجل رحيله (ولا اعتراض على مشيئة الله) الذي باغتنا دون أن نتمكن من رد بعض جميله أو تقديم واجب مّا تجاهه.
    ها أنذا أستعرض أطياف ابتساماته... تقاطيع وجهه المستبشرة.. أتشمم بأذني أصداء صوته البعيد.. البعيد ينبعث هادراً وحميمياً من أعماق الروح.. منشغاف القلب الذي لا تعتصم به إلا ذكريات المصطفين الأخيار ممن أحببتهم..
    أريد أنأكتب شيئاً مختلفاً.. شيئاً يليق بمقامه وقامته.. أقصد أن أقول شيئاً لا يقوله إلا الشعر...
    لا.. لا.. إنني أعرف طبعي في مثل هذه الظروف... أعرف طبعي جيداً... لا فائدة في المحاولة... فأنا لا أستطيع الآن تنكيئ جراح الشعر.. الذي طالما خذلني فيمثل هذه المواقف.. فهل ينفعني أن أتمثل في الراحل الجليل بقول الشاعرالقديم:
    عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصم ... ورحمتُه ما شاء أن يترحّما
    تحيةَ من أوليتَه منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ بلادَك سلَّما
    وما كان قيس هُلكهُهلكَ واحد ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما
    أم الأحرى بي أن أترنم فيه بقول بكير:
    يَا أرْضْ يَا غَرُوْرِيِهْ
    كمَّا تْشِنْ لَفْلْفِي

    علي كَمَطْرَةَ امْنُوْحِيِهْ
    ولاّ كْذَنَا مَخْرَفِي

    لاَ يْتَيْتْ شَادَرّكَهْ
    لاَ امْعَفّ لاَ مَقْطَفِي

    وْلاَ سْقَيْتْ مِنْ سَاقِيَهْ
    قُلّ لَمْذَرَايِهْ ادْهَفِي

    وْلاَ هَبَا ذَنَا جِنّيِهْ
    مَلاّ امْظُرُوْفَ ارْتَفِي

    رحم الله الأهدل... وجعل مسكنه في أعلى علّيين... وأعظم أجر أهله وذويه.. وأصحابه وتلاميذه ومحبيه.. وأحسن عزاء الجميع.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
    صنعاء، الثالثة من صباح يوم السبت 17 إبريل 2010م
    التعديل الأخير تم بواسطة أحمد الأهدل ; 27 -04- 2010 الساعة 06:07 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •