ما كلُّ مَنْ نطقوا الحـروفَ أبانـوا فلقد يَذوبُ بمـا يقـولُ لسـانُ
لغـة الوفـاءِ شريفـةٌ كلماتُهـا فيها عن الحـبِّ الأصيـلِ بَيـانُ
يسمو بها صدقُ الشعور إلى الـذُّرا ويزُفُّ عِطْرَ حروفهـا الوجـدانُ
لغةٌ تَرَقْرَقَ فـي النفـوس جمالُهـا وتألَّقـتْ بجلالـهـا الأَذهــانُ
يجري بها شعـري إليكـم مثلمـا يجـري إلـى المتفضِّـل العِرْفـانُ
لغةُ الوفاء، ومَنْ يجيـد حروفَهـا إلاالخبيـر الـحـاذق الفـنَّـانُ؟
أرسلتُها شعـراً يُحـاط بموكـبٍ مـن لهفتـي، وتزفُّـه الألـحـانُ
ويزفُّـه صـدقُ الشعـور وإِنَّمـا بالصدق يرفـع نفسَـه الإِنسـانُ
أرسلتُ شعري والسَّفينةُ لـم تـزلْ في البحر، حـار بأمرهـا الرُّبَّـانُ
والقدس أرملـةٌ يلفِّعهـا الأسـى وتُميت بهجـةَ قلبهـا الأحـزانُ
شـلاَّلُ أَدْمُعِهـا علـى دفَقاتـه ثـار البخـار فغامـت الأَجفـانُ
حسناءُ صبَّحهـا العـدوُّ بمدفـعٍ تَهوي علـى طلقاتـه الأركـانُ
أَدْمَى مَحاجرها الرَّصاص ولم تـزلْ شمَّاءَ ضـاق بصبرهـا العُـدوانُ
ألْقَـى إليهـا السَّامـريُّ بعجلـه وبذاتِ أَنـواطٍ زَهَـا الشَّيْطَـانُ
نَسي المكابـرُ أنَّ عِجْـلَ ضلالِـه سيذوب حيـن َتَمُّسـه النيـرانُ
حسناءُ، داهمَها الشِّتـاءُ، ودارُهـا مهدومـةٌ، ورضيعُهـا عُـريـانُ
وضَجيج غاراتِ العـدوِّ يَزيدهـا فَزَعاً تَضَاعـف عنـده الَخَفقـانُ
بالأمسِ ودَّعهـا ابنُهـا وحَليلُهـا وابنُ اْختهـا وصديقُـه حسَّـانُ
واليوم صبَّحـتِ المدافـعُ حَيَّهـا بلهيبهـا، فتـفـرَّق الجـيـرانُ
باتـت بـلا زوجٍ ولا إِبــنٍ ولا جارٍ يَصـون جوارَهـا ويُصَـانُ
يا ويحَها مَلَكـتْ كنـوزاً جَمَّـة وتَبيت يعصـر قلبَهـا الِحرْمـانُ
تَستطعم الجارَ الفقيـرَ عشاءَهـا ومتى سيُطعـم غيـرَه الُجوْعَـانُ
صارتْ محطَّمـةَ الرَّجـاء، وإنَّمـا برجائـه يتـقـوَّت الإِنـسـانُ
يا قدسُ يا حسنـاءُ طـال فراقُنـا وتلاعبـتْ بقلوبنـا الأَشـجـانُ
من أين نأتـي، والحواجـزُ بيننـا: ضَعْـفٌ وفُرْقَـةُ أُمَّـةٍ وهَـوانُ؟
من أيـن نأتـي، والعـدوُّ بخيلـه وبرَجْلـهِ، متحـفِّـزٌ يَقْـظَـانُ؟
ويَـدُ العُروبـةِ رَجْفَـةٌ ممـدودةٌ للمعتـدي وإشــارةٌ وبَـنـانُ؟
ودُعاةُ كلِّ تقُّـدمٍ قـد أصبحـوا متأخـريـن، ثيـابُـهـم أَدْرَانُ
متحدِّثـون يُثَرْثِـرُون أشـدُّهـم وعيـاً صريـعٌ للهوى حَـيْـرانُ
رفعوا شعـارَ تقـدُّمٍ، ودليلُهـم لِينيـنُ أو مِيشيـلُ أو كـاهـانُ
ومن التقـدُّم مـا يكـون تخلُّفـاً لمَّـا يكـون شعـارَه العصيـانُ
أيـن الذيـن تلثَّمـوا بوعودهـم أيـن الذيـن تـودَّدوا وأَلانـوا؟
لما تزاحمـت الحوائـجُ أصبحـوا كرؤى السَّراب تضمَّهـا القيعـانُ
كرؤى السَّرابِ، فما يؤمِّـل تائـهٌ منها، ومـاذا يطلـب الظمـآنُ؟
يا قدس، وانتفض الخليـلُ وغَـزَّةٌ والضِّفتـان وتاقـت الـجـولانُ
وتلفَّت الأقصـى، وفـي نظراتـه أَلَـمٌ وفـي ساحـاتـه غَلَـيـانُ
يا قُدس، وانبهر النِّداءُ ولـم يـزلْ للجـرح فيهـا جَـذْوةٌ ودُخـانُ
يا قدس، وانكسرتْ على أهدابهـا نَظَراتُهـا وتراخـت الأَجـفـانُ
يا قُُدْسُ، وانحسر اللِّثام فـلاحَ لـي قمـرٌ يدنِّـس وجهَـه استيطـانُ
ورأيتُ طوفانَ الأسـى يجتاحُهـا ولقد يكون من الأسـى الطوفـانُ
كادت تفارق مَنْ تحـبُّ ويختفـي عن ناظريهـا العطـف والتَّحنـانُ
لولا نَسائـمُ مـن عطـاءِ أحبَّـةٍ رسمـوا الوفـاءَ ببذلهـم وأعانـوا
سَعِدَتْ بما بذلوا، وفـوقَ لسانهـا نَبَـتَ الدُّعـاءُ وأَوْرَقَ الشُّكـرانُ
لكأنني بالقـدس تسـأل نفسَهـا من أيـن هـذا الهاطـلُ الَهتَّـانُ؟
من أين هذا البذلُ، ما هذا النَّـدى يَهمي عليَّ، ومَنْ هُـم الأَعـوانُ؟
هذا سؤال القدس وهـي جريحـةٌ تشكو، فكيف نُجيب يا سَلْمـانُ؟
ستقول، أو سأقول، ما هذا الندى إلاَّ عـطـاءٌ سـاقـه المَـنَّـانُ
هذا النَّدى، بَذْلُ الذيـن قلوبُهـم بوفائـهـا وحنانـهـا تَــزْدَانُ
أبناءُ هذي الأرض فيهـا أَشرقـتْ حِقَبُ الزمـان، وأُنـزِل القـرآنُ
صنعوا وشاح المجـد مـن إِيمانهـم نعم الوشـاحُ ونِعْمَـتِ الأَلـوانُ
وتشرَّف التاريخ حين سَمَـتْ بـه أخبارُهـم، وتوالـت الأَزمــانُ
في أرضنا للنـاس أكبـرُ شاهـدٍ ديـنٌ ودنيـا، نعمـةٌ وأَمــانُ
هي دوحةُ ضَمَّ الحجازُ جذورَهـا ومن الرياض امتـدَّت الأَغصـانُ
الأصل مكـةُ، والمهاجَـرُ طَيْبـةٌ والقـدسُ رَوْضُ عَراقـةٍ فَيْنَـانُ
شيـمُ العروبـة تلتقـي بعقيـدةٍ فيفيض منها البَـذْلُ والإحسـانُ
للقدس عُمْقٌ في مشاعـر أرضنـا شهدتْ بـه الآكـامُ والكُثْبـانُ
شهدت به آثـارُ هاجـرَ حينمـا أصغتْ لصوت رضيعهـا الوُديـانُ
شهدت به البطحاء وهي ترى الثرى يهتـزُّ حتـى سالـت الُحْلجـانُ
ودعـاءُ إبراهيـمَ ينشـر عطـره فـي الخافقيـن، وقلبُـه اطمئنـان
هذي الوشائج بين مهبـط وحينـا والمسجد الأقصى هـي العنـوانُ
هـو قِبلـةٌ أُولـى لأمتنـا التـي خُتمـت بديـن نبيِّهـا الأديـانُ
أوَ لَمْ يقل عبدالعزيـز وقـد رأى كيف الْتقى الأحبـار والرُّهبـانُ
وأقـام بلْفُـورُ الهياكـلَ كلَّهـا للغاصبيـن وزمـجـر البُـركـان
وتنمَّـر الباغـي وفـي أعمـاقـه حقدٌ، لـه فـي صـدره هَيجَـانُ
وتقاطرتْ من كلِّ صَـوْبٍ أنْفُـسٌ منهـا يفـوح البَغْـيُ والطغيـانُ
وفدوا إلى القدس الشريف، شعارهم طَرْدُ الأصيـل لتخلـوَ الأوطـانُ
وفد اليهـود أمامهـم أحقادهـم ووراءهـم تتحفَّـرُ الصُّلـبـان
أوَ لم يقـل عبدالعزيـز، وذهنُـه متوقـدٌ، ولـرأيـه رُجْـحَـانُ
وحُسام توحيد الجزيرة لـم يـزلْ رَطْبـاً، يفـوح بمسكـه الميـدانُ
في حينها نَفضَ الغُبـارَ وسجَّلَـتْ عَزَماتِـه الدَّهـنـاءُ والصُّـمَّـانُ
أوَ لم يَقُـلْ، وهـو الخبيـرُ وإِنمـا بالخبرةِ العُظْمـى يقـوم كيـانُُ:
مُدُّوا يدَ البَذْلِ الصحيحةَ وادعموا شعـبَ الإِبـاءَ فإنهـم فُرْسَـانُ
شَعْبٌ، فلسطينُ العزيـزةُ أَنبتـتْ فيه الإبـاءَ فلـم يُصبْـه هَـوانُ
شَعْبٌ إذا ذُكر الفـداءُ بَـدا لـه عَـزْمٌ ورأيٌ ثـاقـبٌ وسـنـانُ
شعبٌ إذا اشتدَّتْ عليـه مُصيبـةٌ فالخاسـرانِ اليـأسُ والُخـذلاُن
لا تُخرجوهم من مَكامنِ أرضهـم فخروجُهم من أرضهـم خُسـران
هي حكمةٌ بدويَّـة مـا أدركـتْ أَبعادَهـا فـي حينهـا الأَذهـانُ
يا قُدْسُ لا تَأْسَـي ففـي أجفاننـا ظلُّ الحبيبِ، وفي القلـوبِ جِنـانُ
مَنْ يخدم الحرمين يأَنَـفُ أنْ يـرى أقصاكِ في صَلَـفِ اليَهـودِ يُهـانُ
يا قُدسُ صبـراً فانتصـاركِ قـادمٌ واللِّصُّ يـا بَلَـدَ الفـداءِ جَبَـانُ
حَجَرُ الصغير رسالةٌ نُقِلَـتْ علـى ثغر الشُّموخ فأصغـت الأكـوانُ
ياقدسُ، وانبثق الضيـاء وغـرَّدتْ أَطيـارُهـا وتـأنَّـقَ البسـتـانُ
يا قدس، والتفتتْ إِلـيَّ وأقسمـتْ وبربـنـا لا تحـنَـثُ الأَيـمـانُ
واللّهِ لن يجتازَ بـي بحـرَ الأسـى إلاَّ قلـوبٌ زادُهــا الـقـرآنُ