نجوت من الموت نجوت.. ولدت من جديد!
ثلاث ساعات بالسيارة والشوارع مغلقة وسط الزحام والارتباك، وثلاث ساعات مشياً على الأقدام وسط المياه العالية، ما زلت بحالة صدمة وعضلات جسدي تؤلمني بشدة.. لا يوجد بيت في هذه اللحظة خال من الخوف والترقب لأحد عالق في الشوارع حتى هذه اللحظة!
هذه الكلمات المفجعة لأحد متضرري سيول جدة أول من أمس. مناظر كارثية مؤلمة نقلتها شبكة (الإعلام الموازي) وسط صمت وعدم اكتراث من قبل الإعلام الرسمي، عدا بعض القنوات الخاصة. فما مرت به جدة خلال ثلاثة أعوام متتالية، حصيلتها ثلاث كوارث أليمة متتالية أشبه بطوفان، ومن المؤلم أن يعيش الإنسان تجربة قاسية لمرتين متتاليتين، بسبب لصوص الفساد غير الظاهرين، الذين كأننا نراهم يتفرجون من النوافذ على هطول المطر، مستمتعين بزخاته تداعب شبابيك منازلهم العالية، ثم بكل بساطة يخلدون إلى النوم على أرائكهم، يداعبون شواربهم الكثة ويحمدون الله على العافية!
بينما يتحول الواقع أمام الإنسان طريقا يضيق شيئاً فشيئاً في كل مرة يجد نفسه محصوراً بالمياه من كل جانب مثل جزيرة نائية يكاد يلتهمها المحيط. فحينها تكون الحياة أكثر سوداوية، لولا فسحة الأمل! فالأقوياء يصنعهم الأمل في لحظات صعبة تشبه انصهار الذهب، الذي كلما اكتوى بالنار زاد بريقه واتضحت قيمته، ومـثل هؤلاء هم الذين يقولون (لدينا اليوم أمل)، وخاصة أن ثمة ضوءا في آخـر النفق لن تطفئه الضوضاء مهما بلغت من قوة، فثمة إصرار لدى الإنسان بأن يعيش حياة كريمة ما أمكنه ذلك، وثمة شعور لديه بأنه لن يكون في مأمن طالما أنه ما زال يبدو بصورة الخائف المرتقب.
قلتُ في العام الماضي إن جدة أصبحت (غير) بحزنها وآلامها وموتاها. واليوم أقول: إن جدة تغني أنشودة المطر بصداها الحزين. جدة ليست مجرد أبنية وعناصر مادية فقط، فهناك الإنسان- الإنسان الذي يشعر بالأسى والخوف والحزن، ولا يشعر بالأمن تجاه تلك الظاهرة الطبيعية المسماة بـ"المطر":
أتعلمينَ أيَّ حُزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيفَ تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيفَ يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟
بلا انتهاء- كالدَّم المراق، كالجياع،
كالحبّ، كالأطفال، كالموتى- هو المطر!
وسط هذه الكارثة الثلاثية المدوية، لا يملك الإنسان إلا أن يتعاطف مع جدة في كآبتها، وأن يمسح الدموع عن وجنتيها، ويهدهد على كتفيها علّها تنام:
تثاءب المساء، والغيوم ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ
كان طفلاً بات يهذي قبل أن ينامْ:
بأن أمه-التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها،
ثم حين لجّ في السؤالْ
قالوا له: بعد غدٍ تعودْ..
لا بُدَّ أن تعودْ.
أتمنى أن تكون جدة متماسكة وقوية، فقد صمدت أمام العديد من الصدمات، وها هي تمر بمحنة أخرى نجت منها بصعوبة. ورغم كل الوعود التي تلت كارثتها المطرية قبل عام، جاءت زخات المطر الأخيرة لتعيد فتح ملف الفساد من جديد، فقد أصيب سكان جدة بـ"فوبيا المطر"، وهم معذورون في ذلك، فإصابتهم هذه مكتسبة: اكتسبوها من الشوارع التي تحولت إلى أنهار وأودية، لأنها لم تكن مستعدة لاستقبال المطر بطريقة أخرى، واكتسبوها من المخططات السكنية في مجاري الأودية، وكذلك من المباني التي هربوا منها خوفاً من سقوطها على رؤوسهم، ومن مواقف كثيرة وجدوا فيها أنفسهم محتجزين في خضم السيول، وكون الإنسان يخرج منها حياً- ذات مطر- فذلك يعني أنه ولد مرة أخرى خارجاً من رحم السيول.
تمر جدة بأزمة لم تتعاف منها حتى الآن، إذ لن يشعر الفرد بالطمأنينة والأمن إلا إذا أحس بإنسانيته تتجسد من خلال التقدير العالي للذات الذي يرتبط بكل ما حوله، غير أن واقع الحال في جدة يجعل العيون شاخصة نحو السماء ترقب دموع السماء.. والذي يبعث على الخوف ليس المطر بحد ذاته، وإنما شبح الخوف من الخوف من الموت، الذي يرافق المطر قبل أن تنهمر المزاريب بالنشيج!
سعود البلوي