فكل الحج تذكيرٌ بإبراهيم عليه السلام وأهل بيته ، وتنويهٌ بهم ، وتذكيرٌ بمآثرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فمن طاف تذكَّر إبرهيم عليه السلام ؛ الذي كسَّر أصنام قومه ، ومن صلَّى عند المقام ، ونظر إلى الحجر ؛ الذي جعله الله آيةً ، فغاصت قدماه فيه ؛ وإذا سعى بين الصفا والمروة تذكَّر هاجر ، وثباتها ، وثقتها بربها ؛ وإذا شرب من زمزم تذكَّر إسماعيل عليه السلام الذي بثق له ماءها .

ومن معالم التوحيد في الحج التلبية التي يعقد بها الحاج والمعتمر نسكه ، وتكون هي ذكْرُه الذي يكرُّره ، ويتقرب إلى الله به ؛ لبيك اللهمَّ لبيك ؛ لبيك لاشريك لك لبيك ؛ فهذه التلبية تتضمن الاستجابة لله عز وجل ، والإنابة إليه ، والمسارعة إلى أمره بالفعل ، وإلى نهيه بالتـرك وإلى خبره بالتصديق . ومعنى لبيك : أي ألبي دعوتك ، وأستجيب لأمرك مرةً بعد مرة ؛ فعلاً للمأمور ، وتركاً للمحظور ، وخضوعاً لقدرك المقدور ، فلك الحمد على ذلك كله ، فأنت المستحق للحمد على ما لك من الكمالات ، وما تسديه من النِّعم ، وتصرفه من النقم ؛ لذلك فإنِّي ألبي دعوتك ، وأستجيب لأمرك مرةً بعد مرة ، وكرَّةً بعد كرة ؛ توحيداً لك ، وكفراً بالطواغيت والشركاء ، فكما أنَّك ليس لك شريكٌ في الملك ؛ فكذلك ليس لك شريكٌ في العبادة ؛ وحيث أنَّ التلبية هي لبُّ التوحيد وخلاصته ؛ لذلك فإنَّ الشيطان لمَّا أوقع عمرو بن لحي الذي كان ملِكاً على مكة وما حولها زمناً طويلاً ؛ حتى قيل أنَّه رأى العاشر من ولد ولده فوفد إلى ملوك الروم ، فرآهم يعبدون الأصنام ، فاستحسن عبادتها ، وأخذ له أصناما ، وكرَّ راجعاً فلمَّا قرب من مكة أراد أن يحرم بالعمرة ، ولبَّى قائلاً : لبيك اللهمَّ لبيك ؛ لبيك لاشريك لك لبيك ، فتمثل له الشيطان في صورة بشر ؛ وقال له : فيها زيادة ؛ قال : وماهي ؟ قال : إلاَّ شريكاً هو لك ؛ فكأنَّه اشمئز منها ، فقال : تملكه وما ملك ، فأدخل بهذه الكلمة الأخيرة ما قبلها من الشرك ؛ وهو قوله : إلاَّ شريكاً هو لك .

وهكذا الشيطان يموَّه على بني آدم ، ويخدعهم بشيءٍ من الحق ؛ ليدخل به الباطل ؛ وحيث أنَّ كلمة تملكه وما ملك ؛ كلمة حقٍّ ، فالله يملك المخلوقين ، وما ملكوا ؛ لكن أراد الشيطان بها استثناء الشريك مع الله عز وجل ، وبهذا أدخل هذا الرجل الشرك إلى بلاد العرب ، وغيَّر دين إبراهيم ؛ الذي كانوا عليه ؛ لذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديـث الكسـوف (( عرضت عليَّ النَّار ؛ فرأيت فيها عمرو بن لحي يجرُّ قصبه في النار )) أي أمعاءه ، والعياذ بالله .


وعلى هذا فيجب أن يحذر المسلم أن يلبي وهو واقعٌ في الشرك ؛ فيكون قد هدم توحيده بذلك الشرك الذي وقع فيه ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه .