معالم التوحيد في الحج
إنَّ الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لاشريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه ، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ؛ أمَّا بعد :
فإنَّ خير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالةٍ في النار .
ثمًَّ إنَّه قد طلب مني أن ألقي كلمةً في منسوبي التوعية الإسلامية في الحج بعنوان معالم التوحيد في الحج ، وحيث أنَّ التوحيد أساس الدين ، وقاعدته التي عليها يبنى ، ومنها ينطلق ، وشرطه الذي به يصح ، وبوجوده يقبل ؛ وعند عدمه تُردُّ جميع الأعمال ؛ قال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا ) وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب ) ومع كون المشرك لاتقبل منه حسنة ؛ فإنَّه أيضاً لايغفر له ذنبٌ ؛ قال تعالى : (إنَّ الله لايغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ومع ذلك فإنَّ المشرك شركاً أكبر محرَّمٌ عليه دخول الجنة ، ومحتَّمٌ عليه دخول النار ، والخلود فيها ؛ قال تعالى عن نبيه عيسى عليه السلام أنَّه قال لقومه : ( يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنَّه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) وهو موجبٌ لحبوط العمل ، وعدم استفادة صاحبه منـه قال الله عز وجل : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين () بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصف ) وهذه كلها مساوئ تترتب على ضد التوحيد وهو الشرك الأكبر ، وفي ذلك بيان لمزية التوحيد ، وأنَّ انعدامه تترتب عليه كوارث فضيعـة وفي هذا بيانٌ لمنـزلة التوحيد من الدين ككل .
أمَّا بالنسبة للحج فإنَّه أسس على التوحيد بيان ذلك من الآتي : قال تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألاَّ تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميق ) قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنـان في ج5 / 288 : " قال تعالى : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) أي هيأناه له ، وأنزلناه إياه ، وجعل قسماً من ذريته من سكانه ، وأمره الله ببنيانه ، فبناه على تقوى الله ، وأسسه على طاعة الله ، وبناه هو وابنه إسماعيل ، وأمره أن لايشرك به شيئا ، وأن يخلص لله أعمالـه ، ويبنيـه على اسـم الله : ( وطهر بيتي) أي من الشرك والمعاصي ومن الأنجاس والأدناس وأضافه الرحمن إلى نفسه لشرفه وفضله ، ولتعظم محبته في القلوب ، وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب ، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه ، لكونه بيت الرب سبحانه للطائفين به ، والعاكفين عنده ؛ المقيمين لعبادة من العبادات من ذكرٍ ، وقراءةٍ ، وتعلم علمٍ ، وتعليمه ، وغير ذلك من أنواع القرب (والركع السجود ) أي المصلين أي طهروه لهؤلاء الفضلاء ؛ الذين همهم طاعة مولاهم ، وخدمته ، والتقرب إليه عند بيته ..." فهؤلاء لهم الحق ، ولهم الإكرام ، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ، ويدخل في تطهيره تطهيره من الأصوات اللاغية ، والمرتفعة التي تشوش على المتعبدين بالصلاة ، والطواف وقدَّم الطواف على الاعتكاف والصلاة لاختصاصه بهذا البيت ، ثمَّ الاعتكاف لاختصاصه بجنس المساجد " اهـ .
والمهم أنَّ الله عز وجل ما خصَّ إبراهيم عليه السلام بهذه المزية إلاَّ لما فيه من محبة التوحيد وبغض الشرك ؛ الذي حمله على التفاني في دعوة قومه ، ثمَّ الحوار معهم ، ثمَّ تكسير أصنامهم ، ثمَّ قرارهم لتحريقه ، ورميهم له في النار ، فجعلها الله عليه برداً ، وسلاماً ، ومع هذا كله فإنَّ الله عز وجل لمَّا بوأه مكان البيت أراه إياه ، وأمره ببنائه ؛ كان ذلك على شريطة نشر التوحيد ومحاربة الشرك : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألاَّ تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) ثمَّ أعاد الوصية مرةً أخرى في هذا السياق مشدداً على الأخذ بها مرةً أخرى ، ومؤكداً ذلك فقال في الآية 30 من هذا السياق : ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلاَّ ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور () حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنَّما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق ) تصويرٌ عجيب لمن وقع في الشرك كأنَّه سقط من أعلى شاهق من قمة جبل ؛ أو من فوق عمارةٍ طويلة من ناطحات السحاب ؛ أو من فوق طائرة في ارتفاع شاهق ؛ أو من السماء المعروفة ضد الأرض ؛ أي أنَّ من وقع في الشرك بالله كأنمَّا سقط من ذلك المكان العالي ، فتخطفه الطير ؛ أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق ؛ بعيد في الأعماق ، وفي هذا التصوير تنفيرٌ عن الشرك ، وتبشيعٌ لصورته ، وإظهارٌ له في هذه الصورة البشعة ؛ التي تشمئز منها النفوس ، ولقد كرر الله عز وجل في هذا المقطع الأمر بالتوحيد ، والتحذير من الشرك تارةً بالثناء على الموحدين ، وذكر صفاتهم ، وعواقبهم الحميدة ، فقال : ( ولكل أمةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إلهٌ واحد فله أسلموا وبشر المخبتين () الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهـم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) .