أدخلوني وأخرجوني . فرأيت باحة الشارع تغص بالباعة والمتسولين والمكفوفين أمام ( بانوراما) عسكرية (للأب..) , وهم أشبه بالشرطة . يشكلون طوقا دائريا تتوسطه جثة محترقة, وامرأة تقف بعيدا تلوح بنحيب موحش.
في مرر ضيق ذي سلاسل قديمة وارض خشنة مطلية بقير يذوب في فم العتمة المعشوشبة في الرواق الطويل . لمحت خلال الخرقة المرتخية على عيني الأشياء حولي , أمامي:
عجلة الزمن الجنونية تدور بعواء وصفير مع نفحات تتكوم أمام الخطى . الجدران المتآكلة تزرعها المشاجب والكلاليب المحملة بعلاقات حديدية صدئة بينما كانت الحبال المفتولة تتدلى من السقف الى الفراغ موزعة بخط مستقيم بمسافات متساوية . استغاثات حجرية ترتطم بآلاف الأقفال الملتصقة بأبواب تقف كصف طويل .. أبواب شاحبة لفظت جلدها .. أبواب أضحت جدرا دائمية , وشخيب فاتر ربما لطيور مهاجرة تخترق الأبنية الأسمنتية مع أنين متقطع لأطفال , نساء , رجال, تشتته قهقهات تجأر كفرامل سيارة قديمة. ظلال كثيفة تخلفها سلسلة المصابيح الباهتة المتباعدة ترسم على الأرض والجدران كصور سوداء مترنحة وأخرى ساكنة. رأيت بعضها تتهاوى كشمعة محترقة بينما تتموج الأخر باستطالات مكونة شاشة متقاطعة الظل.
ضوضاء تتشابك , تتباعد , تتنافر. لم استطع تمييزها , وهناك براميل مثقبة , وقناني غاز تصطف بامتداد الجدار , وأعداد لا تحصى من اللفائف القانية و والملابس المتناثرة.
لا أدري بالضبط لماذا لفوا رأسي بعباءة أقفلت شحمة أذني وابدلوا عصابة عيني بنظارة سوداء معتمة حيث بدأت أشعر بدوار وألم ينبض في صدغي مع رؤيا متضببة حد العمى باستثناء ثقوب ابرية في الزجاجتين السميكتين يخرقها شعاع نحيف يجر بصري الى ممرات ملتوية بداخلهما وبعناد مرير يجتاز النظارة فتتراءى الأشياء حولي, أمامي كالأشباح.
خيل لي ان الرجلين بجانبي يلفظان نهايتي , وان الجدران المصفدة تنتظرني بشراهة. وآخر خيط امسك به المستقبل سيتدلى معي في الفراغ. و(الأب ) الذي مافارقت أسنانه بصري منذ ان رأيته البارحة في (التلفاز) كانت أشبه بسكين يماني معقوف , أحسست بأنها شبح يطارد الجميع.
الكفان المتصلبان ذات الأظافر المدببة يخرقان كتفي حتى العظم . وأنا أغذي الخطى شعرت برطوبة القماش الملتصق على أذني اليسرى نزولا حتى الرقبة, وألم حاد ينهشني من باطن الأذن.
( أنها تتقيأ)
لسعات من عصى كهربائية أشبه بفكي مقرضة يداعب أحدهما بها جسدي جعلتني أخمن وجود مهاو ونقاط هائجة يكتنفها الغموض. وأنا أتابع الحركة لم يثقل شفتي سوى سؤال لم أفلت منه:
( إلى أين أساق..؟)
كان السباب المصحوب بركلات يتخثر قبل ان يأخذ مني شيئا . فمعرفتي بهؤلاء كانت من قبل أستاذ افتقدته قبل عام , حيث اختفى فجأة. اتجهوا بي عمقا وقدماي الحافيتان تتعثران بوهم الظلمة التي أخذت تتزايد في لحظة كانت الأضواء الباهتة تذوب رويدا رويدا, فلم يعد خيط الشعاع يتسلل عبر النظارة والرجلان ما زالا يمسكان بي بقوة.
سمعت اصطفاق الباب, سقطت رجلي في حفرة , سحبتها , لكنها سقطت مرة أخرى بعد رفسة بجزمة صلبة مع ركلة دفعت رجلي الثانية.
تسمرت لحظة ثم أمرت أن أتقدم.
( أنه سلم أرضي )
ربما يفضي إلى سرداب , لحد , مشنقة , لا أدري . ظننت أنها لحظاتي الأخيرة , عندها غزتني صور الماضي بعجلة وهي تتداعى في مخيلتي .
إني أراها , أتأملها جيدا: (الدرابين) , المدرسة , اللعب , الألوان , صورة أخي:
كانت ليلة باردة , يلفها الشفق برداء السعف , ( الخرنوب ) , الصمت . لم يسمحوا لي برؤيته إلا لحظات متشنجة قبل أن يوارى في التراب . كان صدره مبعوجا , عيناه مثقوبتين, جسده كخشبة مشققة.
أنزل درجة أخرى فأشم رائحة نتنة تخرق اللفاف تتصاعد كدخان مدخنة استوطنت هذا الدهليز. رفع أحدهما النظارة قليلا الى الأعلى ثم أعادها الى وضعها موجها ضوء(لايت) نحو الأسفل.
(ما هذه .. جثة ؟)
كان الدود المترنح يلج ويخرج من أقنية حفرها على نقاط الجثة المفترشة طبقة داكنة من الدم. تعلوها صورة, صاحبها ذو أسنان حادة معلقة على الجدار, خط أسفلها ..( الأب)
خيل لي أخوتي وهم يتذوقون شتائم لاذعة , لكني تمالكت نفسي بأعصاب لونها الغضب بخدر غيبي . سحبوني الى الأعلى ثم انعطفوا بي يمينا باتجاه المصابيح التي بدأت أميزها عبر الزجاجتين المعتمتين. دفعوني نحو جسد يلتصق بإحدى الأبواب , اندفع هو الآخر ثم عاد مجتازا وضعه . خيل لي بندول ساعة جدارية.
كانت الصرخات المرتفعة من الجدران تتوالد كلما تتوالد الخطى, احسستها تنساب في أعماقي تستطيل , تشدني , تخاطبني بالصبر. اليقظة , وخيط دافئ من الدعاء يمخر باتجاه معاكس للقيح البطيء النازل من أذني اليسرى مولدا نبرات خفية ممتلئة بعناد تتصاعد بوميض يحثني( عليك بالسر). وفي الممر الملتوي الذي يقع على جهتيه زنزانات جاثمة , أجدني أسمع الهمس المخنوق للأعناق والأجساد المهشمة العظام , والحوامل المبقورة البطون , والعجائز المقطعة الشفاه. فتنتفض في داخلي نواقيس, مطارق , صفارات , نذير يقبض لساني فأصمم بارتداء الشعاع الروحي المبتل بندى يغذي الجذر باستقامة شاخصة.
كانت النظارة المعتمة تساعدني أن ألمح ظلالا لأجساد تزحف نحو أفق نهائي. تصورت جسدي سيأخذ وضعها . وفي نهاية الالتواء الأول للممر, قذفوا بي في ظلام زنزانة يودعني صرير الأقفال الخشن, ثم انقطع الخطو تماما: ظلام حالك , أرضية متموجة تترك بها قدماي حسيسا يبتلعه الجدار , صفيحة معدنية اعترضتني , ربما أحتبس فيها بول ..... وخلف الجدر أسمع سعالا حادا لصدور أثخنها المرض مع سكون فاتر تلفه ثقوب الليل .
حاولت رفع النظارة , لكن لم استطع . فيداي المقيدتان إلى القفا أثقلتهما السلسلة الملتفة حول عنقي كأفعى كبيرة. شعرت بالعطش والجوع يتحركان بجسدي على عجلة التعب.اتكأت مسلما نفسي الى نوم عميق. لم ادر بالضبط كم ساعة نمت قبل ان أجد جسدي مسحوبا من طرف السلسلة وقهقهة الرجلين تتطاير بجنون مفرط.
(ربما يقوداني الآن الاستجواب ).
أوقفوني مزيلين اللثام والنظارة عن رأسي ووجهي بعد أن انعطفوا بي في ممرات عدة حيث فوجئت .. وأنا بمكتب غزير الإضاءة .. رجل جالس خلف منضدة زجاجية وأمامه خشبة صغيرة مثبتة. خط عليها ( المدير) . وفوقه بقليل صورة ( الأب..) التي بدت أسنانه ملتمعة.
ضحك بملء شدقيه حتى بانت نواجذه مع إيماءة أوعزها لهما لم أفهمها , لكني أبصرت مرتديا ثيابي , مضمدا, وكلمتان تلاحقاني في الظل.
- لقد أفلت
أخرجوني , وأنا أحدث نفسي بامتعاض, فرأيت باحة الشارع تغص بالباعة و والمتسولين والمكفوفين أمام ( بانوراما) عسكرية ( للأب..) بأسنانه الشاخصة, وهم أشبه بالشرطة, يشكلون طوقا دائريا تتوسطه جثة محترقة, وامرأة تقف بعيدا تلوح بنحيب موحش.