أنا وهي واقفتان ، متقابلتان ، متواجهتان ، عيناها في عيني ، وعيناي مرتبكتان على فستانها والنافذة القاتمة خلفنا والثلاجة تحتها.
يدي الصغيرة غائبة تماما في يدها السمراء الغليظة ، كنا متقابلتين ، هي تتكلم وأنا أرتجف ، الممر معتم رغم المصباح المدهون بالأزرق المتدلي فوقنا ، حبات العرق تلصق شعري المقصوص بالإيشارب الأبيض وتنحدر على ظهري بقعا على لباسي المدرسي الأصفر ، حبات عرق صغيرة متلاحقة تلتمع على جبينها وتختفي ، وتلتمع أعلى صدرها حيث ظهر من فتحة فستانها المنقط بالأخضر جزء من قميص نوم بحري ، قدماها في الشبشب منفرجتان قليلا ، وقدماي متلاصقتان في حذاء أبيض مزموم بقطعة بلاستيك في منتصفه ، كلما اشتد همسها انحنت علي فتلفحني أنفاسها المشبعة برائحة الحلبة ، وانضغطت يدي في يدها ، كان الخاتم الجديد – أول خاتم أمتلكه- يكاد يخترق لحم أصابعي ، ولكني ظللت صارة على أسناني ، مستمعة بجَلَد لأبلة فتحية في هذا الممر المعتم بين مطبخها وغرفتها.
في طابور الصباح جاءت إلي ، أمسكت بكتفي وأخبرتني بنبرات قاطعة أن كلامي السيء عنها قد وصلها ، نظرت في عيني ، ونظرتُ في يدها حيث تدلى طرف الخرطوم الأخضر –كان يستعمل سابقا لري الحشائش في المدرسة- ثم استدارت.
النافذة خلف ظهرها مغطاة بورق تجليد لاصق ، أحمر اللون ، والثلاجة منفرجة الباب قليلا كاشفة عن أكوام من المعلبات والأطعمة ، رائحة حامضة للطبيخ تملأ الممر ، وأبلة فتحية أخذت تلهث متعبة من الوقوف.
قبل جرس الطلقة بلحظات استندت على باب فصلي وأومأت لي ، فتبعت بعماء النقط الخضراء في فستانها حتى باب سكن المعلمات خلف الحوش الواسع للمدرسة ، هناك أمسكت بيدي ودخلنا إلى غرفتها ومطبخها.
انفتحت الثلاجة خلفها تماما ، فغضضت بصري ، كانت تنحني علي أكثر ، وتتكلم أسرع وأسرع ، ثم فجأة أفلتت يدي فكدت أسقط ، أشارت إلى ركن مقابل فحملتُ كيسا بلاستيكيا شفافا مليئا بالدفاتر ، أخذته أبلة فتحية مني وأعادت تغطيته بكيس معتم عليه صور علب دخان من ماركات شهيرة ، كان ثقل الدفاتر في الكيس قد حفر خطين أحمرين على راحتي ولكني تناولته بلا تردد ، فتحت لي الباب فرأيت الخرطوم الأخضر خلفه ، قالت:"صححيها وحدك ،لا تدعي أحدا يراك ، وأحضريها غدا".
جوخة الحارثي