بيتُ شعرٍ من جهنم
-1-
في هذا اليوم المشمس، كانَ...الخ
-2-
يوم أمس توفيَّ أخي عبدالله، كان لا زال شاباً أعزباً رحمه الله، وكان مجلس العزاء فاخراً لدرجة أنَّهم قالوا عَنهُ بأنَّهُ أفخر مجلس عزاء منذ عزاء جدنا الشيخ حمّاد الذي تكفلَّ جلالة الملك بتكاليفهِ كافة، لا أدري لماذا توقفت أمام الغرفة المستطيلة التي كان يبكي فيها النساء؟ أبكتني زوجة أخي وهي تَنْدُبُهُ وَتُعَدِّدُّ مآثره، لذا قطعت على نفسي عهداً أنْ أُعيدَ لليتامى حصتَّهم من ميراث أبيهم الذي اغتصبته، أخذتُ هذا العهد والدموع تترقرق في عينيَّ، وفي مجلس العزاء حدث ما لم يكن بالحسبان...الخ
-3-
في هذا اليوم ينتابني شعورٌ بأهمية أنْ أكتبَ عن هذه الأحداث التي لم أتوقع بأنَّي في يومٍ من الأيام سأكتبُ شيئاً عنها؟ ومن المستحيل أن أتمكنَّ من شرح الأسباب ووصف وقائع كل ما جرى بالتمام والكمال، فهناك الكثير مما يؤلمني أنْ أتذكره فضلاً عنْ أَنْ أدوِّنَه، لأنَّهُ يُشعِرُني بالخزي والعار، والضياع كأنني سقطتُ في هُوَّةٍ سحيقة لا قرار لها؟ بالإضافة إلى أنَّ بيتاً من الشعر دخل إلى ذاكرتي عنوةً فجعلَ مشاعري إزاء تلك الفترة تختلط بفوضى شاملة، لذا أرجو منك المعذرة يا ولدي فيما لو وجدتُ كتابتي تشبه الهذيان، لقد كتبتُ يومياتي كما كان يفعل أبي، رحمه الله الذي كان يقول(يجب أن نتعلم نحن المخلصين من تجارب الحياة كلَّ يومٍ شيئاً جديداً) لكنني عندما وصلتُ إلى هذا الموضوع بالذات أمسكتُ لعدة أسباب، لكن الآن يبدو أنَّ كل شيء قد انتهى، وما عادت الأشياء كما كانت، وفقدتْ أهميتها بمرور الزمن، وإذا كنتُ قد أحجمت عن ذكرها فليس ذلك إلا بسبب أنَّ الشجاعة تخونني كدأبها، لكن وصف الأحداث بالشكل الحقيقي الذي حدثت فيه، شيءٌ مستحيل وعندئذٍ ستفقد الحكمة المرجوة منها.
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
يلاحقني هذا البيت اللعين من الشعر، يختبئ في مكانٍ ما في رأسي ويطفو على السطح، باستمرار، دونَ أن يتمَّ استدعائه، إنَّه يؤرقني، ويطرد الطمأنينة عني، صوت منشار يشقُّ دماغي نصفين، سيوصلني هذا البيت إلى الجنون ما لم أفلحْ في نسيانهِ، وأينما ذهبتُ وجدته مكتوباً، وله الأثر الكبير في الرعب الذي نعيشه اليوم، لكنهم حرفوه ووضعوا بدلاً من كلمة القتال، الجهاد، وهذا كله بسبب غياب السلطة التي سبق وأنْ منعتْ عرض مسلسل الزير سالم-المهلهل بن ربيعة- مُفْسِدْ الحفلات.
أبي كانَ مختار القرية وهذا المنصب وراثي، سنةٌ واحدةٌ مضتْ على بدء الاحتلال، ولا زالت قريتُنا تَخلو من أي حادث مهم، نَسْمَعُ عن حوادث تقع في قرى مجاورة، لكن بفضل سياستي الحكيمة...
-قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي-عفواً، لكن هذا البيت يخرجُ همساً هادئاً متسللاً، كما يخرج من ثقبٍ صغير كثقبِ الإبرة في الجبل ماء الينبوع، ثمَّ يَصبُّ في النهر العظيم، يَلحُّ على رأسي كمطرقة خشبية، ولا يتركني حتى ينهكني ويذرني كالمهووس الأبله، لا بدَّ أنَّ لهذا البيت مَلِكٌ عظيم من ملوكِ الجان يخدمه، لا تظنوا بي سوءا، أنا لا أكتبه هنا للعبث، لا إنَّهُ بيت ذلك الرجل الذي يقال عنه بأنَّهُ صَرَعَ الجنَّ، هم أخبروني بذلك وعلاقاتي واسعة معهم-وبفضل سياستي الحكيمة استطعتُ أنْ أصنع نوعاً من الحميمية بين أهل قريتي والقوات المحتلة، رغم أنَّ بعض أهالي القرية يرددون للفكاهة فقط: للاحتلال ثلاث حسنات عجز عنها النظام السابق:الموبايل والستالايت وسيارات البالة، ولقد نَهَرتُهم بأنْ لا يتحدثوا في أمرٍ لا يعنيهم.
بدأتْ الحكاية في صباح يومٍ مشمس حيث جاءت ثلاث سيارات نوع همر وسيارة كبيرة، على التل الصغير قرب قريتي نصبوا أجهزتهم، خيمةٌ كبيرة وخيمتان صغيرتان، وسطها نصبوا برجاً سلكياً عالياً، حدثٌ شغل القرية والقرى المجاورة، قالوا يريدون بثَّ إذاعة، وقالوا سينصبون أجهزة تجسّس علينا، وقالوا سيطردونَنَا مِنْ قَريتِنَا لِيَأتوا بأُنُاسٍ آخرين، زوجتي العجوز اكتفت بقولها

يا لشؤم البسوس) وطالما ذرفت العجوز دموعها وهي تتابع مسلسل الزير، وكانت تقول كلما أعادوا عرض هذا المسلسل تحدث المشاكل وكانت محقة، ففي فترة عرضه أول مرة قبل سنتين حدثت حربٌ كبيرة بين قريتين عظيمتين، تقع قريتنا بينهما، ولمْ تنتَهِ إلاّ بَعْدَ أنْ تدخلَّ المحافظ ومسئولي القيادة وعقدوا اجتماعاتٍ كثيرة.
-ارتدَّتْ على رأسي مطرقة الجان، آه لن يشعر بي إلاّ من حفظ هذا البيت.
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
وأرسلوا في طلبي فأنا المختار واستأنسوا برأيي، حول وجوب تخفيض الديّات التي بدلاً من أن تدفع من خزينة الدولة لأهالي القتلى، يقسم المبلغ الكلي على أهالي القرى المجاورة جميعهم، وتسرب من جدرانها أنَّ الخبراء الدوليين وعلى رأسهم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، الذين حضروا بعض الجلسات وتوصلوا إلى أنَّ أحد أسباب الحرب هي عرض مسلسل الزير الذي أثار حروباً في أماكن متعددة في البلاد لذا قرروا رفع مذكرة إلى مجلس الأمن توصي بضرورة منع هذا المسلسل لأنَّه يحرِّض على الثأر والعنف، وبعد سنتين من هذه الحادثة، وفي غياب تام لأية سلطة حقيقية، أعادوا عرض المسلسل ثانيةً.
آه المطرقة:
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
المطرقة تعود إذاً فعاقبني ربِّي معاقبةً قرَّتْ بها عينُ من يأتيني بحسدِ، وطيَّرَتْ أشلائي حرّاً وكمداً وتمزَّقَّت فلذة كبدي، من أيِّ وادٍ في جهنم هذا البيت؟
وعند عرض الحلقة التي يقتل فيها جساسٌ، كُلَيباً، اختار الاحتلال التلَّ المجاور لقريتنا ليضعوا عليه إحدى مراكزهم، وبالطبع أرسلوا في طلبي، كان معهم شخصٌ يرتدي ملابسهم ويتكلم لغتنا المحلية-مترجم-استقبلوني بحفاوة كبيرة، أعطوني معلبات كثيرة، وأنواع عديدة من الحلويات اللذيذة، معهم مجندة أعجبت بشقرتي وعيناي الزرقاوين، كما قال لي المترجم بعد ذلك، لذا ارتأيتُ أنْ أفضلَّ اللون الأزرق في كل شيء، ملابسي الداخلية والخارجية، وجدران منزلي، ولولا أن يقولوا عني مجنون لصبغتُ وجهي باللون الأزرق، ولدي البِكْر وضعوا له عدسات فصارت عيناه زرقاء كعيني والده، منذ أول لقاء دخلتُ إلى قلوبهم وأحبوني كثيراً، فأعطوني جهاز اتصال نوع ثرّيا، وبسبب خوفي دَفنته وبعد شهر صدأ وتعطب، أعدته إليهم ضحكوا مني، وأعطوني مبلغ(300$)لم أخبر أحداً خوفاً من اتهامي ظلماً بالخيانة، فأهل قريتي لا يفهمون شيئاً في السياسة، والله يديم الاحتلال، طلبوا أسماء القرية، لديَّ سجل فيه أسماء القرية فردا فرداً، أعادوه بعد يومين، رسموا خريطة للقرية وسألوني عن بيوت القرية ودونوا أسماء العائلات، مع الملاحظات، كل شيءٍ هادئ ولم تحدث أية مشاكل، حتى جاءت قوة أخرى أمريكية فألقتْ القبضَ على اثنين من شباب القرية، مضت شهورٌ طويلة دون أن يعودا أو يأتينا خبرٌ عنهما، وعندما استفسرتُ من أصدقائي على التل، قالوا لي:
- هؤلاء من الشرطة العسكرية، ونحن لا نستطيع أبداً أن نتدَّخلَّ في شؤونهم، ورغم ذلك سنحاول من أجل عينيك الزرقاء فقط.
قالت لي المترجمة التي جاءت بدلاً من المترجم، وهي تبتسم:
-إنَّهم يعتقدون بأنَّك ثمرةٌ صالحة للاحتلال الإنكليزي قبل عشرات السنين، وعيناك الزرقاوان يؤكدان ذلك.
أخبرتُ القرية بأنَّ هؤلاء المعتدين الذين اعتدوا على منازلهم وأخذوا أولادهم معهم، هم من قطعاتٍ أخرى، وأنَّ أصدقائنا فوق التلّ تألموا كثيراً وسيعملون جهدهم لإطلاق سراحهم، ووزعوا لأهل القرية بعض الأحذية الرياضية كمساعداتْ لتنمِّي فيهم الروح الرياضية، لكن أهل القرية لم يفهموا، وعلى رأسهم أبناء أختي الأغبياء وعلى رأسهم ذلك الشاعر الصعلوك الذي يحرض على حربٍ لا يعلمُ غير الله نتائجها، وفي اليوم الذي عُرِضَتْ فيه الحلقة التي يَقْتُل فيها الزير سالم، جبيراً بن الحارث بن عباد، حفظ منها أبيات شعرية، وراح الجميع معهُ يرددون قصيدةً للحارث بن عباد، قالها في رثاء ولده وأكثر من هذا كتبوها في قصاصات ووزعوها على أهل القرية:
كُلُّ شَيءٍ مَصيرُهُ لِلزَوالِ غَيرَ رَبّي وَصالِحِ الأَعمالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي وَاِعدِلا عَن مَقالَةِ الجُهّالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لا نَبيعُ الرِجالَ بَيعَ النِعالِ
أشعارٌ جميلة لكنها غبية، قيلت في حربٍ يُدينها كلُّ مَنْ عاشها أو سمع بها، بسببِ ناقةٍ حقيرة شنُّوا حرباً لأربعين عام أهلكتْ الحرث والنسلْ، وهاهم شبابنا وقد بحثوا في التاريخ ونقبوا في كل علم عن ما يؤيد حججهم ليشنَّوا حرباً لا يقدِّرُّ ويلاتها إلاّ الله، وطبعوا قصائد كثيرة منها قصيدة عبدالله بن المبارك، والتي في صدرها يقول:
يا عابدَ الحرمَين لو أبصَرتَنا لعَلِمتَ أنّك في العبادَةِ تلعَبُ
ناقشتهم كثيراً، أخبرتهم أنَّه ليس من الحكمة والعقل أنْ نقاتل منْ لا طاقة لنا معهُ، فيهلك الزرع والنسل، فأجابني ذلك الشاعر الأبله ابن أختي بقول المتنبي:
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
أحاججه بالعقل والحكمة فيأتيني بأشعارٍ جاهلية ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين، ولولا جهالتهم لما سموهم بالجاهليين، أخوفِّهُ من القتل ومن ويلات الحرب، فيجيبني شعراً:
أُطاعِنُ خَيلاً مِن فَوارِسِها الدَهرُ وَحيداً وَما قَولي كَذا وَمَعي الصَبرُ
وَأَشجَعُ مِنّي كُلَّ يَومٍ سَلامَتي وَما ثَبَتَت إِلاّ وَفي نَفسِها أَمرُ
تَمَرَّستُ بِالآفاتِ حَتّى تَرَكتُها تَقولُ أَماتَ المَوتُ أَم ذُعِرَ الذُعرُ
ذَرِ النَفسَ تَأخُذ وُسعَها قَبلَ بَينِها فَمُفتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمرُ
ما كلُّ هذا الجنون الذي أصابَ أبناء قريتي؟ المتنبي أجبن الشعراء وشعراء جاهليين لم تنفعهم قصائدهم في ذلك الزمن، فكيف ينتفعون بها أبناء أختي في السجون أو عندما يذوقوا كأس الموت، استنفدت كل وسائلي، وخابت آمالي في أنْ أجدَ عندهم آذاناً تسمع، طيَّر الغضبُ عقولهم، وكنتُ فيهم كما قال الشاعر:
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلاّ ضُحى الغَدِ
فَلَمّا عَصوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى غِوايَتَهُم إنَّي بهم غَيرُ مُهتَدي
وبعد أن طعنتُ في أشخاص الشعراء الذين استشهدوا بهم جاءوني بأبياتٍ لعلي بن أبي طالب:
أَي يَومَيَّ مِنَ المَوتَ أَفِر يَومَ لا يَقدِرُ أَو يَومَ قَدِر
يَومَ ما قُدِّرَ لا أَرهَبُهُ وَإِذا قَدِّرَ لا يُنجي الحَذَر
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُتُ مِنْهُم، خَلَصُتُ نَجِيًّا، ورجعتُ مسرعاً إلى أصدقائي الجدد، لأخبرهم بالتغيير الحاصل في تفكير الناس، وازدياد المشاعر العدوانية، وأخذتُ معي بعضاً من تلك القصائد والمنشورات التي كانوا يعلقونها ويوزعونها، وأخبرتهم برأيي في ضرورة انتقالهم من فوق هذا التل، وما شهدتُ إلا بما علمتُ، لكنَّهم كالعادة استقبلوني بِضَحِكَاتٍ ولامبالاة عهدتها منهم، وقالوا:
-لي أنتَ لا تفهم أهمية هذا التل.
-لكنني أخاف أن يهجم عليكم رجال القرية وأنتم قلّة قليلة.
- لا تخف من هذه الناحية فقوتنا ليست في العدد، عشر دقائق وتأتي الطائرات فتدكَّ القريةَ دكّاً.
-ولكن ستزداد المشاعر العدوانية، فلمَ لا تتجنبون حرباً قد لا تنتهي.
-تعال غداً وسنعطيك لكلِّ بيتٍ في القرية، ثلاثمائة دولار وهي ستتكفل بتبديد المشاعر العدوانية.
-ولو أضفتم إليها بعض المواد الغذائية، كزيت الطعام أو اللحوم المعلبة.
-لا بأس هذه مطالبٌ رخيصة بالنسبة إلى قيمة هذا التل.
وقمتُ بتوزيع التعويضات على المنازل، لكل بيت مائة دولار، وفرح بها الناس، وأجرى البعض منهم بعض التحسينات على منزله، ومنهم من اشترى بها ستلايت أو أي نوع آخر من الأثاث، ومنهم مّنْ خبأها، والجميل في الأمرِ، هو إنني وزعتها بشكلٍ سريّ، وكلما أعطيتُ أحداً، أخبرتهُ أنَّ هذا سر، وأنْ لا يخبرَ أحداً، فيقول نعم، وتظاهر الجميع، بأنَّهم لم يستلموا شيئاً، لكن بعد فترة وشيكة وبعد ما نفذت التعويضات التي شغلتهم، عادوا من جديد يلتفون حول ابن أختي الشاعر الصعلوك، ثمَّ قالوا لي:
-نحن لا نريد مالاً نحن نريد مدارس ومستشفيات ومستقبلاً أفضل لأولادنا، كما وعدتنا.
فذهبتُ إليهم وأخبرتهم بمطالبهم الجديدة، ففرحوا بها وقالوا هذا شيءٌ بسيط سنكتب إلى القيادة وغداً نردُّ عليك.
وفي الغد أعلنت مناقصة لبناء مدرسة كبيرة في قريتنا، وجاء المقاول الذي فاز بالعطاء، وبالطبع أقمتُ له أنا المختار مأدبة غداء محترمة، واشترطتُ عليه أن لا يستخدم عمالاً من خارج قريتنا وأنْ يكون العمال تحت إدارتي من حيث الأجور، لأنَّ المقاول لن يعرف كيف يحفزَّهُم على العمل، فوافق عن رحابة صدر، وفجأةً اختفتْ البِطالة من قريتنا.
وبعد أسبوعين علمنا أنَّهُ قد فرَّ إلى الخارج بعد أنْ ذَبَحوا شَريكَهُ، وانهارتْ آمال شباب القرية في تحسين معيشتهم، وعادوا من جديد إلى أشعار الجاهلية وعذابات السجناء في أبي غريب، وفشلت كل محاولاتي في منع الحرب، فَنَصَبَ البعض عبوة ناسفة بجانب طريق السيارات الهمر الثلاث التي كانت تذهب عصر كل يوم إلى الناحية القريبة، لشراء حاجياتهم، كنت أقبض منهم مرتباً كل شهر، واليوم جاء وقت العملْ، ذهبت مسرعاً إلى التلِّ بسيارتي القديمة وأخبرتهم عن مكان العبوة(لغم بدائي)، ليس حبّاً بهم لكن لمنع الحرب ليسَ إلاّ، وجاءوا إلى المكان ووجدوا العبوة وفكوها عن السلك الخيطي، الذي تتبعوه فوجدوه ينتهي إلى بيتٍ خرب قرب الشارع الترابي الذي يشق قريتنا نصفين، أخذوا العبوة فرحين، وهم يرطنون بينهم ويتضاحكون:
Oh; it is faithful dog
وبالطبع شكروني بحرارة كبيرة:
-ثانكيو بوبي ..
كما كانوا ينادونني دائماً، بوبي وهو اسمٌ جميل، فيه من الموسيقى ما يكفلُ طرب المستمع أو المتكلم، لذا هو أفضل من اسمي العتيق كما قالت لي المترجمة الجميلة، وبعد أيام لم تعد بقرتنا الفريزو، وكانت لها مودةٌ خاصة في قلبي، فهي أمُّ الخير، بَكَتْهَا العجوز، في مجلس عزاء غير رسمي، امتلأ فناء البيت بعجائز القرية ونسائها، اللاتي حاولنَ مواساة زوجتي التي ما انفكَّتْ عن البكاء، بحثنا عنها في كل مكان، كانت الحادثة الأولى من نوعها في قريتنا وصارت حديث السمَّار، عادت البقرة بعد يومين وفي رقبتها رسالة داخل قطعة قماش، فتحت الرسالة فإذا بها تهديدٌ قوي اللهجة يطلب فيه مبلغ(750)ألف دينار ثمناً للعبوة التي أخذها جنود الاحتلال، أو سيقتلون ماشيتي قبل أن يقتلوني وأولادي،في البداية فقدت أعصابي ورحت أهدد وأتوعد،ولكن عاد إليَّ رشدي، قالت زوجتي العجوز:
-أعطهم المبلغ فالمال وفير.
أرسلتُ أطلب رؤساء عائلات القرية والبعض من رؤساء القرى المجاورة، وأولمت لهم مأدبة غداء، وشرحت موقفي وكيف أنقذت قريتي، لأنَّ هذه العبوة البدائية القديمة التي لا يتجاوز ثمنها عشرة آلاف دينار لو قتلت واحداً من جنود الاحتلال في أحسن الأحوال، فسيبيدون القرية عن بكرة أبيها، ومن ثم فنحن معهم في معاهدة والإسلام ينهى عن الخيانة ولقد استأمنوا منا، ولم نرَ من جنودهم ما يسوءنا بل على العكس لم يفعلوا لنا إلا الخير، كانوا يوزعون المساعدات الشتوية والمدافئ النفطية على القرية وصبغوا جدران مدرستنا(والله يديم الاحتلال)وكان الوفد متعاطفاً معي وهكذا حالهم بعد المآدب، حتى أنَّهم قالوا في فورة غضب أنَّهم مستعدين لاستخدام القوة ضدَّ هؤلاء الصعاليك الذين يتسمون بالمقاومة، لكنني رفضتُ لأنني على يقين أن فورة الغضب هذه تخفي وراءها جبناً وخوفاً كبيرين، وأنا أكره أنْ أتسبب في حربٍ بين الأهل بسبب بقرة واحدة، فذهب وفد التفاوض وعاد يوم الجمعة باقتراحات ثلاث:إما أن أدفع لهم البقرة،أو بندقية ومسدساً وعبوةً ناسفة كالتي أخذت منهم،أو أعطيهم مبلغ الـ(750)ألف دينار،وبالطبع أولمت لهم وليمةً أخرى، وتوسلت إليهم بأن مطالبهم مبالغٌ فيها ويجب عليهم أن يتراجعوا قليلاً فأنا خالهم بكل الأحوال، وبعد الوليمة الثالثة رضوا بعبوةٍ مماثلة فقط،فذهبت إلى الاحتلال وأخبرتهم بطلباتهم وزدت عليها مسدساً وبندقية، وأخبرتهم بموقفي،وبالطبع كان المحتلون أسخياء معي فأعطوني مبلغاً كبيراً من المال ومسدسا نوع ميكاروف 8,5 ملم وبندقية وأعادوا لي العبوة بعد أن حلفت لهم بأنهم لن يزرعوها في طريقهم بل سيزرعونها بعيداً عنهم،ضد قطعاتٍ أخرى،وأعطيت العبوة لوفد التفاوض وقلت لهم بأن هذه القوة التي فوق التل هم رجالٌ مدنيون لقياس نسبة التلوث الإشعاعي في البيئة، ولا علاقة لهم بالاحتلال، كما أخبروني..
بعد هذا اليوم... الخ.
-4-
هذه الكلمات الآنفة الذكر لأبي، كان رحمه الله ذو خطٍ رديء جداً، بالإضافة إلى أنَّ الدفتر كان محروقاً في جزء كبير منه، حتى أني استعنتُ بأحد خبراء الآثار من قرية تل العنبر، ليس فقط لأقرأ مذكرات والدي السخيفة بل من أجل أن أعلم المكان الذي أخفى فيه دولاراته الكثيرة التي كان يقبضها من الاحتلال، مضت سنةٌ على مقتل والدي ولم يتغير شيء، ومع ذلك فيجب أن لا يهتم المرء أكثر من أن يعيش يومه سعيداً وإن اضطر في سبيل ذلك أن يرسل الآخرين إلى الجحيم، هذا كان شعاري في الحياة....
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
ما هذا؟ كلا من المستحيل أن ينتقل إليَّ هوس أبي بهذا البيت، كلا لنْ اسمح بهذا، سأتجاهلهُ، سأنساه، سأفعل أيَّ شيء، لكن لنْ أتركه يسيطر عليٍّ.
فذاك أبي مختار قرية تل السعيد رحمه الله،رغم سعيه الحثيث لإسعاد القرية،كانوا يسمونه الأشقر الخبيث،لكنه كان حكيماً،قال لي مرة: سيأتي يوم يصبح فيه ضعفاء القرية أشرارا،عندئذٍ سيحل الخراب،وهذا ما حدث فالقرية صار أسمها تل الخراب بعد أن قتلوا أبي وحرقوا زرعه وقتلوا ماشيته، وكتبوا على جدار البيت:
(فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)
عاد من جديد، إنَّه وباء لا يقل خطورةً عن الإيدز، وأنا لا أفهم عن أيِّ جهادٍ يتحدثون؟ كان أبي يملك مائة ألف دولار، احترقت مع أثاث المنزل، ولربما سرقوها، أبناءُ عمتي القتلة، أولئك المساكين الفقراء الذين ما كان يجرؤ أحدهم أنْ يَرفع صوته في حضرةِ أبي، صاروا وحوشاً ذئاباً لا توجد رحمةٌ في قلوبهم، قتلوا أبي الشجاع الصنديد، رغم أنَّ أبي قام بتربيتهم، أبي صاحب الجفنات الشهيرة والمآدب الكبيرة ضحى بحياته من أجل القرية، ولم يتعاون مع الاحتلال أبداً، ولم يستأثر بالمساعدات التي وزعوها على أهالي القرية ورغم ذلك قتلوه، وهددوا بقتلي،فلم أجد لي خلاصاً غير أن أرتمي في أحضانهم، وأخبرتهم عن أولاد عمتي الذين قتلوا أبي، لكنهم علموا بوشايتي ففروا، ورميت معظم رجال القرية بتهمٍ باطلة غيبتهم في سجون أبي غريب وبوكا، جزاءا بما كانوا يفعلون، وبسبب رضاهم وربما سعادتهم بمشاهد القتل التي تفشت في قريتنا،وصارت القوات الأمريكية تفتش قريتنا في الأسبوع مرتين أو ثلاث، وأولاد عمتي كانوا من عشيرة أخرى هاجروا من القرية بعد فعلتهم الشنيعة، وسكنوا في المناطق الحدودية، وهاجرت معهم إحدى العشائر المتحالفة معهم، لكنهم لم يفروا من قدرهم حيث قصفتهم الطائرات وأبادتهم جميعاً في ليلة عرس أحد أبنائهم، وبقي في قريتنا أفراد عشيرتي فقط، لكن الأمراض فتكت بنا، والقوة العسكرية التي كانت تسكن على التل انتقلت إلى داخل القرية، فصارت بيوتنا الآمنة هدفاً لقصف بالهاونات كل ليلة تقريباً، وقتل الكثير من الأبرياء،مما اضطرهم أن يهاجروا إلى المدينة التي لم تكن أحسن حظاً، فالظلم شؤم الظالمين،واليوم ندمت على فعلتي وخيانتي لأهلي وتدميري لقريتي السعيدة بسبب ساعة غضب،ووشايتي المشئومة دمرت القرية السعيدة، فاعتزلت في بيتي وسط القرية التي باتت مهجورة، لقد علمتُ اليوم فقط أنَّ الضرر الذي يصيب المنتقم أعظم وأكبر لأنَّه يفقد راحته وهدوءه وطمأنينته وإنسانيته، أمّا تلك النفوس التي غدرتْ بأبي فإنَّ نار الانتقام والحقد والحسد أحرقتهم قبل نار جهنم، يوم أمس زارني الكولونيل هاجس وكانت بصحبته الآنسة جانيت، وفرحتُ كثيراً بالزيارة وشكوتُ لهم حالتي النفسية ومعنوياتي المنهارة، وطلبتُ منهم أن يحصلوا لي على دعوة رسمية كي أسافر إلى الولايات المتحدة، فوعدوني خيراً..
وفي اليوم التالي....
-5-
هذه الكلمات الآنفة الذكر لأبي، بدأ كل هذا العنف، لكن متى سينتهي؟أبي وجدي كانا يبحثان عن السعادة فسقطا في هاويةٍ ابتلعتهم دون أية شفقة، أبي الأحمق السمين، لم يشبه أباه الأشقر في شيء، كان رجلاً يندى الجبين خجلاً إذا ما ذكر اسمه، كان يتصف ببهيمية عالية فلا يتوانَ عن قطع عشرات الكيلومترات إلى مأدبة لم يدعَهُ أحدٌ إليها، ولا يتورع عن ملاحقة أية امرأة في القرية لدى أدنى تشجيع، ولو غير مقصود، قتله مسلحون ملثمون غرباء، أصواتهم حادة ولغتهم غريبة، أخذوه من فوق مائدة الإفطار، في شهر رمضان، كان صائماً ودون أية رحمة ذبحوه كما يذبحون الشاة، لم ينصتوا لصراخ أمي وإخوتي الصغار، وصوروا ذبحه في فلم فيديوي وباعوه في السوق بسعر(750)دينار،وهو يعادل نصف دولار فقط ،ما أرخص دمك يا أبي، شاهدت الفلم بعد سنة عند أحد أصدقائي، ولم أذرف دمعة واحدة بل كنت على العكس أضحك، خوفاً من أن يعرفوا بأنَّني أبن المذبوح، لكني بعدما خرجت من بيته، بدأت دموعي تنهمر،وصلتُ البيت ولازالت آثار الحزن على وجهي، لم أقدر أن أخفي الأمر على والدتي،فقالت لي:
-ما عاد لنا عيشٌ في هذا البلد بعد الآن يا وليدي.
هاجرنا إلى الأردن، والدتي تخدم في البيوت، كان أبوها من السادات وشيوخ القوم، وأجدادي الذين توارثوا المختارية وأراضي القرية الواسعة والمواشي الكثيرة، أبي هو الذي أورثنا كل هذا الهم والحزن، ما عدنا نذكره إلاّ بصورةٍ عابرة كما نتحدث عن شيء عابر، تركت المدرسة منذ غادرنا العراق،حيث لا يسمح لنا بالدراسة إلا بشروط تعجيزية،فنحن هنا أجانب،حسب القانون،أنا وإخوتي نغسل السيارات في ساحة لوقوف السيارات، وبينما أكتبُ أنا هذه الكلمات، أخي الصغير يضع رأسه في حجر أمي وهي تداعب شعر رأسهِ بلطفٍ وتنظر إليه مبتسمة وهو يحكي لها بعض المفارقات التي يلاقيها مع زبائنه، وأختي الكبيرة تجلس قبالتها وتتحدث للبقية حول ذلك الخير الوفير الذي تركناه وراءنا في قرية تل السعيد، وفجأةً التفت إليَّ والدتي غاضبة وعنفتني:
- اخرسْ هل تريد إفساد أخوتك.
وكان غضبها لأنَّها وجدتني أردد بيت الحارث بن عبّاد، هذا الذي كان يردده جدي دائماً بصوت عالٍ مليء بالسخرية والاستهزاء،وبصوتٍ لا يكاد يُسْمَعْ، كنتُ أقول:
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
وفي هذه الليلة حدث أيضاً أنْ... الخ
-6-
ليتني أنام وأنسى كلَّ شيء إلى الأبد..
القاص /عبدالكريم يحيى الزيباري
للأمانة منقول ..