الهجرة.. وشُعـبُ الملح
كنت ُ أنظر إلى البحر عندما كانت الطائرة تحاول الاستدارة حول مدرج الهبوط ...
كان البحر يبدو هائجاً، قرابة ظهيرة الحادية عشرة، طيور البحر ذات اللون الأبيض، وبعض الحمائم كانت تلوح في الأفق تحتنا. عندما فـُُتحَ باب الطيارة ووضعتُ قدمي على حافة السلم شعرتُ برئتيّ تتسعان. فمنذ زمنٍ لم أشتمّ رائحة البحر، والعهدُ بهِ قيمٌ جداً. دلفتُ من الباب عبر بوابة القادمين إلى الداخل. بدأت الرطوبة ُتـُعمِلُ جسدي، وبدأت حبات العرق تتدحرجُ إلى أسفل ظهري وساقيّ.
ركبتُ ضمن مجموعة من الركاب في سيارة واحدة.
حدثنا سائقها أنّ الأيام القادمة ستكون ممطرة وخريفية؛ وأن الزرع سيكونُ كَثـًـا، وأنّ جميع الحقول ستـُنبتُ بالقمح والسنابل، وأنّ هذا كلَّـهُ سيكون محفوفاً بِـسـَـحِّ الأمطار، وإدرار الجبال بالسيول.
أسعدني ما قاله هذا السائق وأحسستُ وكأنه يروجُ سلعةً أو ينفخُ فيها كي تبدو حسنة.
كان الطريق إلى قريتنا بعيداً، ودونه الكثيرات من المنعطفات والمعارج كي أستقر.
الجميلُ أنّ كلا جانبيّ الطريق كانت مُـعـشـبةً بالاخضرار، وحبلى بالأغنام والأبقار. وحيثُ أدرتُ بصري أجدُ ناقةً راكضةً أو عنزةً آبقةً، أو أرنباً أو أكثر تعدوا هناك.
كان سعالُ الراكب الذي إلى جواري يزعجني وهو يدخن، وكان حريٌ بي أن أسعل ـ أناـ لا هوَ من هذه السحابة التي تخرجُ من منخريه.
*************
قال السائق بعد أن ران الصمت لوهلة...
أهل القرى مساكين.. بالرغم من الخير الذي ينعمون به إلاّ أن الفقر ضجيعهم ليلَ نهار.
عرفتُ أنه يكمنُ لموضوع آخر... فقلتُ : كل هذا من تدبير السماء..
تحاشى ـ هو ـ هذه العبارة وقد بدت مستهلـَكة ولا تدعوا لفتح مجالٍ للحديث.. واستطرد قائلاً : لا زالت قضية الفقر مستعصية حتى على الدول الكبرى؛ ولا أظنها يوماً ستحلُ عقدتها..
تنهدّ الذي إلى جواري وقال : سُقيـاً لأيامٍ مضت، رغيفُ خبزٍ وشربة ماء، ولا أحلى ولا أطيب منها..
ردّ السائق المهذار : هذه أيام زمان .. إيه إيه ..
قال آخر : هل سمعتم عن دواءٍ جديد للأنيميا ؟؟
ردّ السائق الذي عنده علم من الكتاب ( وقد أضجرني جداً،، فهو لا يسكتُ أبداً أبداً )
ردّ قال : نعم ... يمدحون الملح.
فقلتُ في نفسي ( أصبحنا وأصبح الملكُ لله ... الملحُ يا ظالم، لااااا هذا السائق يبدوا عالماً بكل شيء).
وأكمل قائلاً : لقد سمعتُ من جربهُ وأخبرني أنه قد شُفي تماماً من الأنيميا. والملح يشفي كلّ شيء، حتى أن هوام البحر التي تموت يجوز أكلها لأنها مشْبعة بالملح.
تدحرج العرق إلى أسفل ظهري، وقلتُ : لو أنّ الملح يشفي لكان كل الناس اتجهوا إلى البحر واغترفوا منه، وما أظن هذا الكلام إلا مستحيلاً..
لكنّ السائق أجحظ عينيه وقال ـ وقد أقسم بالله من مكانه ـ أنّ له ابن أخٍ كان يعاني من الأنيميا وقد جربّ الملح وشفي تماماً وهو اليوم كالحمار.
فتبسمتُ وقلتُ : كالحمااااار !!
وهل هذه فائدة أخرى للملح أن يصبح المرءُ حماراً..!
**************
أزفت الرحلة على الانتهاء ، ولكننا توقفنا في إحدى محطات تعبئة الوقود فدفعنا له أجرته، وهذه حيلة يحتالها سائق الأجرة كي يأخذ ماله مقدماً من الركاب... ولكن هذا حلاله ..
ترجلتُ من السيارة عند باب الدار، ورمقتُ السائق بنظرة فاحصة تمنيتُ أن أعرف ما تحت جمجمته من أخبار. ساورني شعور بالسعادة تجاهه، فهو على الأقل يلقى في طريقه الكثير من الناس، ويسمع الأخبار المتواردة. لكنني كقصة الملح لم أسمع من قبل.. ربما كان صادقاً.
سأحكيها لغيري أيضاً لعل الناس أن تـُشفى جميعاً.
لكنني لا زلتُ خائفاً من أن يتحول البشرُ إلى حمير من جراء هذه التجربة..
هــيه يا زمن ...