لعبت الزهور دورًا كبيرًا في حياة العشاق، فحملت خطراتهم وأسرارهم، ونقلت أخبارهم وأفكارهم واتخذوها سيمًا (علامة) فيما بينهم، وقد كانت الزهور من بين سيم المحبين أو علامتهم التي يتعارفون بواسطتها.
اقترن الحب منذ عصور قديمة بمظاهر الطبيعة الجميلة، وصارت المرأة في عرف العشاق كالروضة الزاهية، أو كالزهرة اليانعة، وكم شبه الشعراء الخدود بالورود، وتثنّى القدود بتمايل الغصون، ورفيف الشعر برفيف أوراق الزهر، وعمر السعادة في العشق بقصر حياة الورد.. إلى آخر ما يعرف قرَّاء الغزل من شعر المغرمين، فلا جرم أن اقترنت المرأة بالزهور والنور، والرقة والجمال، وشعر حسان بن ثابت – رضي الله عنه - بانت سعاد الذي ألقاه بين يدي الرسول – صلى الله عليه وسلم - فخلع عليه بردته معروف مشهور.
ولم يكتف العشاق بذلك، وإنما جعلوا الزهرة رسولاً إلى المرأة لتعرف مراد محبها منها، فصارت رمزًا أو لغة أو لحنًا، تنقل أذواقهم وأشواقهم، وتظل هكذا في رحلة ذهاب وإياب لنقل المشاعر، والتعبير عن المقاصد والخواطر.
ولكن لماذا توسع العشاق في استخدام النبات للتعبير عن الطوايا والنيات، هل لجمال فيه فقط؟!، هناك آراء وحكايات منها: أن النبات يعشق كالإنسان، ويتألم ويتبرم ويصل ويفرح مثل الآدميين. ومن هذا في الأثر قصص لطيفة منها قصة عن نخلة كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتردد عليها، فلما غاب عنها كان يسمع لها أنينًا، فلما وضع عليها يده سكنت، وغيرها من الروايات التي تتحدث عن النبات ككائن يشعر ويحس.
[size="6"]لغة الزهور: وسيم العشَّاق مع الزهر غالبًا ما يتمثل في زهرة أو ثمرة، أو فرع شجرة، أو جذع نبات، يحمله العاشق شحنة عاطفية دافئة، ويبعث به إلى من يهوى فيعالج نفسه المنطوية، وينمي شوقه الفاتر، ويخرج القلب مع تلقي الرسالة من عذاباته، ويسترسل مع إشراقة الزهور، وينساب منتشيًا ولو إلى حين.
وسيم الزهر تعبر عن مفهوم ذاتي للحب أو لحالة فيه، وليس عن مفهوم موضوعي بحت، ذلك أن المحب يسقط على زهرة معينة معنى ما، أو يحدد لها لغة رمزية تقولها صمتًا، وقد يرى غيره في هذه الزهرة عينها شيئًا مختلفًا، بل تفاوتت رمزية الزهور من ثقافة لأخرى، بل داخل الثقافة الواحدة من منطقة لأخرى ومن زمن لآخر.
ونحن إذا تلفتنا إلى أحاسيس العشاق، وأملينا النظر في سيمهم ألفينا لغة الزهور ملأى بصور التعبير المختلفة التي تمثل معاني الهوى، وغليان العواطف، وعدم استقرارها على حال، كما تعبر عن فرحة المغرمين بالرسائل التي تبشر بقرب المزار ونعيم السعادة فيه، فالزهرة في سيم العشاق تبكي عنهم، وتعلن الأسى، وتظهر الحرقة والجوى، وتبرد القلوب، أو تزيدها حرارة وتوهجًا، وتُعرب عند أهل المجون والفجورعن حالهم، أو تنطق بالطهارة والعفاف عند أصحابهما، أو تحمل معاني الغيرة والشك.
ولا ريب أن نفوس العشاق ليست من رتبة واحدة، أو نبع واحد، فمنهم من يطلب الخطر والمغامرة والشهوة، ومنهم من يتطلع إلى حياة جياشة مع أفئدة حساسة ومُهَج لَهْفى، ومن يهفو إلى فردوس نقي تتعانق فيه الأرواح، ومن يدلف إلى ممالك الخيال وعوالم الأطياف تُغْرِه الأحلام.
وسيم العشق أو لغة الزهور حافلة بكل هذا، معبرة عن مختلف الميول والرغبات، وتتمثل فيها ألوان من الصبابات، ففي مجال الغزل والتشبيب نجد العاشق يقدم لمن يهوى الزنبق الملون، ليقول له: عيونك بديعة أو الحناء أي صفاتك حسنة. وفي مجال نشوة الحب والسعادة فيه، وإظهار الأشواق، وتجسيم الإحساسات، وإعلان الطرب، والاهتزاز من الفرح يبعث المحب بزنبق الحقل أي حياتي لك، وفي مجال الوفاء، وصدق الوداد، ودوام الذكر، وعدم التحول، والقدرة على تحمل الصعاب مهما تكاثرت، يرسل العاشق زهر الديسم ويعني: حبي لك لا يعتريه الذبول، أو فرع من شجرة خروب خضراء أي وداد وحب يدومان لبعد القبر.
ولأن العاشق يخشى الرقباء والعذَّال؛ فإنه يكثر من رسائل التحذير حتى لا يشهر به، وتصير سيرته مضغة في أفواه السُمَّار، ويستخدم زهورًا لتحمل المرسل إليه على الاحتياط ومن هذا زهور الحناء أي إياك أن تفعل، أو حشيشة الدينار وتعني أن القوم يراقبوننا، أو الخطمية الشمالية والمراد منها أن ينظر المحب في الأمر قبل الوقوع به، وجوز الطيب: اجتماع منتظر.
ويحمل الزهور ما يدور بخلد العشاق حتى الظن والاتهام، والمحب بطبيعته حساس مرتاب؛ ومن ثم اتخذ المغرمون من الزهور ما يعبر عن هذه الحالة، فإذا أرسل واحد لمن يهوى بابيروس فكأنه يقول له: قلبك ميال لكل من تنظر إليه، أو بخور مريم أي أن هناك ريبة تداخله، وقد يتنامى هذا الشعور في طواياه فيرسل بزهرة البطم ليتهم حبيبة بأن قلبه يخلو من الحب.
وفي لغة الزهر ما يعرب عن نفور العاشق من المسرات الخطرة والسعادة الهمجية، والشراهة، والتوحش والشراسة وفي هذا تستخدم زهور البنفسج الأصفر.
وقد يطلقون على النبات الواحد وأنواعه وأجزائه عدة ملاحن لتكون أوسع تعبيرًا، وأدق دلالة على ما في نفوسهم، فالزنبق الأبيض يعني حسن طبيعي، والزنبق الأحمر يعني احتراق العاشق في العشق، والزنبق الأصفر يعني الكذب والغش.
ومن الزهور والنباتات التي تقترب من دلالاتها زهرة ندى الشمس، وتعني: أنتظرك في الصباح الباكر. وزهرة ورود عرائس وتعنى المحبة السعيدة، والسيم هنا يشير إلى الحالة فبين العرس والمحبة السعيدة رابطة وثيقة، وزهرة الفل رمز اللطف والظرف، والسيم هنا وصف للمحبوب، ولا يمكن أن نفرق بين الفل واللطف، وثمر الفلفل يعني أحرقت قلبي، وفي هذه السيم صلة بين الفلفل الحراق، واحتراق القلب بالحب، وشجر الصبر ويعني الحزن، وفي هذا السيم ملاءمة بين الصبر والحزن، لأن الإنسان يصبر على مكروه وهو في حالة حزن وألم، ونبات الشوك رمز للصعوبة والخشونة، وكلها من المعاني الملائمة للشوك، وهناك ألفاظ أخرى موافقة إلى حد كبير للمعاني التي خلعوها عليها.
ومن هنا يمكن القول: إن قِسمًا من سيمهم مستلهم من هذه الزهور والنباتات التي يتراسل بها العشاق، وعلى من يتسلم هذه الرسائل النباتية أن يفهم المراد ويعرف السيم، ولا يعني ما أوردناه أن شخصًا آخر لو رأى رسولاً بين حبيبين يحمل شيئاً يفهم منه ما شرحناه، أنه سيم بينهما يفهمه المرسل منه والمرسل إليه، ويخفى على حامله ومشاهده، ولكن ما نود قوله إن ما ذكرناه هنا من زهور العشاق ومعانيه مستساغ ومفهوم لما بين الزهرة والدلالة من تقارب، والظاهر أنه بمرور الزمن أضفى المحبون هذه المعاني الغربية على الزهور والنباتات؛ لتمثيل رواياتهم الغرامية في الحياة دون معرفة أسرارهم.
فالنرجس مثلاً، يمثل الاعتبار والوقار، ومما ينسب إلى كسرى: إني لأستحي أن أغازل من أحب بمجلس فيه النرجس، وربما يرجع هذا إلى حياء النرجس وعدم تبرجه كما يقول ابن لؤلؤ:
فغض طرفا فيه أسقام والنرجس الغض اعتراه الحيا
لذلك فهو رمز الاعتبار، ولكن ذلك إحساس شعراء دون شعراء، فغيرهم يرى أن النرجس فتَّان يزهو بفتنته، ويتيه ويتحدى غيره، ومن هذا قول أمين الدين جوبان:
وقال حقًّا. قلت ذا أو مــــــزاح فحدق النرجس يزهو بــــه
مقصوف عمر بالدعاوى القباح بل أنت بالطول تحامقت يا
ما هذه إلا عيون وقـــــــــــــاح فقال غصن البان من تيهـه
ولكن يبقى التوافق بين معنى المحبين وأوصاف الشقيق وهو الحسن البراق. وزهر الرمان أو الجلنار كما يذكره بعض الشعراء (والجلنار لفظ فارسي) من الزهور الأخرى التي وافقت أوصافها المعنى الذي قصده المحبون في سيمهم وعند الشعراء في وصفهم هذه الزهرة الجميلة ما يداني ذلك أو يقترب منه كثيرًا، فأبو حنيفة الدينوري يصف نوار الرمان الأصفر الذي يعلوه ورق أحمر مشرق بأنه أرق بشرة من الحرير، ويقول عنه ابن وكيع التنيسي إنه بهي ضرامه يتوقد، ويميد في غصون خضراء.
منقول عشان عيونكم يا حلوين
فاعظم ما تقدم قدم وردة
[/size]