تزگية النفوس في رمضان
بقلم أ. د. أحمد بن عبدالله الباتلي
الحمد لله الذي امتنّ على عباده بمواسم الخيرات يضاعف لهم فيها الحسنات ويمحو فيها السيئات ويرفع فيها الدرجات، فله الفضل والمنّة على عباده بهذه النعم، وله الحمد سبحانه وتعالى على ما أعطانا من هذه العبادات العظيمة التي يقوم بها شأن الدين وتزكو بها النفوس وتتجه إلى الخالق جلَّ وعلا {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (9) {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (10) [الشمس]. ولا شك أن تزكية النفس بالصيام من أعظم أنواع التزكية، هذا الركن الركين من أركان الإسلام والذي يظهر فيه من الإخلاص ويوجد ما لا يوجد في غيره، ولذلك اصطفاه الله تعالى من بين الأعمال وجعل جزاءه مضاعفاً، بل غير معلوم إلا له سبحانه وتعالى فقال "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". من أجل ذلك أشرأبت أعناق الصالحين إلى هذا الموسم العظيم، كيف لا؟! وفيه يسكبون العبرات ويدخلون على الله من هذا الباب العظيم، فيطلبون منه الصفح عن النزلات، فلا غرابة إن كان قدر هذه العبادة في النفوس معظماً وفي القلوب كبيراً. ونحن نذكر بعض الوسائل والتوجيهات التي تعين - بإذن الله- على تزكية النفس في هذا الشهر الكريم لعل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بها فتكون عوناً له على طاعة الله تعالى والفوز برضوانه ومغفرته في هذا الشهر الكريم.
التوبة والرجوع إلى الله
التوبة شعور وجداني بالندم على ما وقع، وتوجه إلى الله فيما بقي وكف عن الذنب والرجوع عن معصية الله إلى طاعته لأنه سبحانه وتعالى هو المعبود حقاً، وهي واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها، قال تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31] .
حفظ القلب
فهو رأس الجوارح كلها، فإذا فسد فسدت جميع الجوارح، وإذا صلح صلحت سائر الجوارح، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.." رواه الترمذي وقال حديث حسن، وابن ماجة. فلا بد من حفظ القلب ويكون ذلك بتفريغه من الشركيات المهلكة، والاعتقادات الباطلة، والوساوس السيئة، والنوايا الخبيثة، والخطرات الموحشة، والأمراض القاتلة كالكبر والعجب والغرور والحسد في أمراض تحبط الأعمال الصالحة.
حفظ اللسان
بترك فضول الكلام ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم. فلا بد من حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة والخوض في أعراض الناس والكذب والخوض في الباطل والكلام فيما لا يعني وفيما لا يفيد كالسب والشتم واللعن. وقول الزور وسائر الشرور، فإن اللسان يزرع بقوله في الدنيا الحسنات، والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرعه في الدنيا إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، فحري بالمسلم أن يحفظ لسانه عمّا فيه هلكته وأن يصون لسانه عمّا فيه مورد حتفه، وجعل المجال الذي يستخدم فيه مجال الخير والإصلاح والدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله تعالى من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وسائر أعمال الخير.
حفظ البصر
ذلك بغضه عن الحرام وإغماضه عن الفحشاء، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } (31) [النور].
فيحفظ المسلم بصره عن النظر إلى الأفلام والمسلسلات والسهرات المصحوبة بالمعازف والطرب ورؤية الكاسيات العاريات مما يتنافى مع حرمة هذا الشهر الكريم.
حفظ الأذن
عن سماع ما يغضب الله عزَّ وجلَّ من الغناء والغيبة والفحش والبذاء وسائر المحرمات، والانصراف عنه إلى سماع كلام الحق سبحانه في القرآن الكريم ودروس العلم والمحاضرات النافعة، قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]. وقال تعالى مادحاً عباده الصالحين: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
حفظ البطن
بترك فضول الطعام والشراب، والابتعاد عن أكل الحرام فلا تدخل في بطنك الربا، فآكل الربا محارب لله ورسوله، ولا تأكل مال اليتيم ظلماً وعدواناً قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وأعلم أن من أدخل الحرام في جوفه لا يستجاب له دعاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" فقال {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (51) سورة المؤمنون وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" رواه مسلم. واحذر من الإسراف في الطعام والشراب، فكثير من المسلمين وللأسف يسرفون في تناول ألوان الأطعمة والأشربة حتى لا يستطيع أن يسجد في صلاته من شدة ما أدخل في جوفه، ويتضجر إذا أطال الإمام السجود في صلاة المغرب أو الفجر ويا ليتهم سمعوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول موجهاً وناصحاً ومعلماً "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"
الحرص على صلاة الجماعة وإدراك تكبيرة الإحرام
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق" رواه الترمذي وصححه الألباني. ومع ذلك نرى البعض لا يدرك الصلاة مع الجماعة إلا وقد فاتته ركعة أو ركعتان أو أكثر، وبعضهم تفوته الصلاة بالكلية، إما لانشغاله بوجبة الإفطار، أو السحور، وإما بحجة سهر الليل كاملاً، وهذا تفريط عظيم في هذا الشهر الكريم، فهو شهر التنافس في النوافل والمستحبات، فكيف يكون سبباً للتفريط في الواجبات؟!
المحافظة على السنن الرواتب
البعض يكتفي بالفرائض وحدها، وكم يحصل فيها من التقصير والسهر، فهذه الصلاة بحاجة إلى ما يكملها، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من حافظ عليها ببيت في الجنة، فعن أم حبيبة، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بني الله له بيتاً في الجنة" رواه مسلم. وهذه السنن هي: أربع قبل الظهر، واثنتنان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الصبح.
الإكثار من الصدقات في رمضان
هو شهر الجود والصدقات، والإحسان إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل يدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" رواه البخاري ومسلم. فعلينا أن نقتدي برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فلنكثر العطاء للفقراء والمساكين والمحتاجين في هذا الشهر الكريم.
الإكثار من قراءة القرآن
فرمضان والقرآن متلازمان، فإذا ذكر رمضان ذكر القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانَِ} [البقرة: 185] .
وقد كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين، قال مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة رضي الله عنها قالت: "أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي" رواه البخاري.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي الحديث تعظيم شهر رمضان لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه ثم معارضته ما نزل فيه، ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه، وفي كثرة نزوله من توارد الخير والبركات ما لا يحصى، وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم" فتح الباري ج9/54.