أئمة الدين والتعليم
بقلم فضيلة الشيخ الدكتور عبدالملك بن محمد القاسم
منذ أن لامست شغاف قلوب الأمة {اقًرأً} والنجباء يجثون بالركب في حلق العلماء، ومن أهمهم الأمر يضربون أكباد الإبل إلى عالم هناك في أقصى الأرض.
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم - جيلاً بعد جيل - تحمل في صدورها العلم الموروث من مشكاة النبوة، وساق الله - عزّ وجلّ - الصبر والاحتساب مطية لعلماء أفذاذ جعلوا تبليغ هذا العلم رسالتهم ونفع المسلمين ديدنهم.
هذا أبوعبدالرحمن السلمي - رحمه الله - يجلس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يقرىء القرآن أكثر من أربعين عاماً من خلافة عثمان رضي الله عنه إلى امرة الحجاج بن يوسف الثقفي ولما كبر ورق عظمه قبل له لإراحة نفسه، فقال: إني سمعت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" فهذا الذي أجلسني مكاني.
وقاربه في زماننا هذا شيخ المشايخ علامة الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، حيث جلس لتدريس العلم أربعين عاماً رغم ما يحمل من أعباء إدارية أخرى تسبقها هموم الأمة مجتمعة حتى تخرج من حلقاته المتعددة أئمة الدين.
وكانت بلده الدلم حاضرة المنطقة في حينها تحفل بوفود الطلاب الذين يفدون على الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - وأتم ذلك في الجامعة الإسلامية في المدينة، وقلَّ أن تجد طالب علم وداعية إلا وللشيخ عنده يد.
وبين الأجيال السابقة واللاحقة أمة من العلماء والدعاة يعلم الله ما قدموا لدينه.
ولمن وقف أمام الطلاب مدركاً حاجة الأمة إلى جيل صالح وقفة تربوية ولمسة حانية رأيت اليوم نتاجها بأم عيني.
فقد ذكر لي الشيخ الدكتور "ح. ح" - ولم أستأذنه في ذكر اسمه - قائلاً: بعد أن أنهيت دراستي الثانوية قدمت من قريتي النائية في منطقة جيزان إلى الرياض، لألتحق بالجامعة، فاجتمع لي فيها رهبة المدينة والجامعة والغربة وما إن استقررت على كرسي في قاعة الدرس حتى زادت الرهبة فإذا بالشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ "معالي وزير الشؤون الإسلامية حالياً" يسأل الطلاب: من الأوائل في الثانوية؟ فكنت ممن رفع يده من الطلاب. فسأل كم تحفظ من كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقلت: كذا - وكان أقل من العشرة أجزاء - فقال: هذا لا يليق بأمثالك! تأتي إليَّ في مكتبي. وبعد.. تثاقلت الخطوات وزادت الحيرة، ولما أقبلت إليه هشَّ وبشَّ ورحب بي وقال: لا يليق بأمثالك إلا أن تحفظ القرآن كاملاً، وسوف أسمع لك كل أسبوع كذا وكذا من القرآن. واستمر فترة ثم رتب لي مع الزملاء الآخرين حتى حفظت القرآن كاملاً وبعدها واصلت الدراسة في الجامعة حتى حصلت على درجة الماجستير ثم درجة الدكتوراة وهو يحثني ويتابعني أنا ومن معي من الزملاء! قلت لمحدثي: إن كانت الوزارة كسبته وقد أبلى فيها بلاء حسناً، فقد بكته عيون الطلاب ومن كان له صحبة معه!
ومع بداية العام الدراسي يحسن بالمعلمين والمعلمات النهل من معين السيرة النبوية وسير السلف في تعليم العلم وتهيئة النشء، ويجمل ذلك قراءة سطور من حياة من لهم أثر في الأمة ولا يزال نفعهم قائماً نراه في حياتنا، ولمن علم أن فلاناً درس أربعين عاماً ألا يتذمر من حصة دراسية لا يزيد وقتها عن أربعين دقيقة.
جعل الله الإخلاص حادياً والتزام المنهج النبوي دليلاً والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.