فضــيلة الشــيخ ســـلـمان العـــودة: أهـل الـديـــــن.. أســــعد النــاس طـــوال العـام!
تستقبل الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها عاماً هجرياً جديداً والأمل يحدو الجميع أن تتحسن أحوال الأمة وتخرج من مآزقها ومشكلاتها التي تعيشها في زمانها الحاضر.. الهجرة وشهر المحرَّم تحمل إلينا الكثير من الدروس والآمال العريضة على المستوى الفردي والجماعي، وحول العام الهجري الجديد وإيحاءته وفضل شهر المحرَّم حاضر فضيلة الدكتور سلمان بن فهد العودة مبتدئاً حديثه بالتاريخ وأسباب تحديد بداية التاريخ الهجري بالهجرة النبوية، مبيناً أن الهجرة لم يُختلف في تاريخها، بخلاف المبعث والمولد فقد اختلف فيهما العلماء، فإن مولد النبي صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد لا يومه ولا شهره بل ولا سنته، وهذا أكبر رد يوجه للذين يحتفلون بالمولد النبوي، فمولد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد، لا يومه ولا شهره بل ولا سنته. وكذلك مبعثه صلى الله عليه وسلم فيه اختلاف، أما هجرته عليه الصلاة والسلام فلا يكاد يختلف الناس في أنها كانت في ربيع الأول، ويحددونها باليوم الثامن أو قريباً من ذلك، فرأوا أن التحديد بالهجرة أنسب لأنه متفق عليه.
وهنا يأتي سؤال: لماذا لم يحددوا التاريخ من وفاته عليه الصلاة والسلام؟ مع أن وفاته عليه الصلاة والسلام كانت معروفة مضبوطة؛ لأنها كانت بحضور أصحابه، وكلهم يعرفون أي يوم بل أي ساعة لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الطاهرة، فالسؤال لماذا لم يبدأ التاريخ منذ وفاته عليه الصلاة والسلام؟ لم يحددوا بالوفاة لأنه لم يكن من اللائق ولا من المناسب أن يبدأ التاريخ بحدث كهذا؛ لأنه من الأحداث الأليمة التي تحزن لها النفوس وتنقبض لها القلوب، ويكره الناس أمرها وتذكرها، فكرهوا أن يبدأ التاريخ بها، ولهذا فإن السبب الثاني في أنهم حددوا بداية التاريخ بالهجرة: أن الهجرة كانت بداية خير ونصر للمسلمين، حيث انتقلوا فيها من الذل إلى العز، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، وبدؤوا حركة الفتوح والجهاد والمغازي، فكانت الهجرة حدثاً عظيماً في تاريخ المسلمين، وكان من المناسب أن يبدأ التاريخ الهجري بهذا الحدث العظيم. لقد حدثت الهجرة في ربيع الأول، ولذلك قال المسلمون: نبدأ السنة من أولها من شهر المحرَّم، لأنه أول السنة، فقالوا: نعتبر السنة الأولى من الهجرة، ولا نبدأ من ربيع الأول وإنما من المحرَّم، وعلى هذا جرى أكثر العلماء والمؤرخين، ومنهم من يبدأ السنة بربيع الأول، ولعل الحافظ ابن كثير رحمه الله جرى على هذا، لكن أكثر العلماء والمؤرخين جروا على اعتبار بداية السنة من محرم. وكان أول يوم في السنة هو يوم الخميس أو يوم الجمعة، كما ذكره الكافيدي في كتابه المختصر في علم التاريخ وغيره. وكان بداية اعتماد المسلمين للتاريخ في السنة السابعة عشرة للهجرة، في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فمنذ ذلك الحين بدؤوا اعتبار التاريخ، كما يقولون بلغة العصر الحاضر: بأثر رجعي، فقالوا: أول سنة نـزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بـالمدينة نعتبرها السنة الأولى، ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا، فبدؤوا يحسبون منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت السنوات التي يحسبون بها سنوات قمرية وليست شمسية، والسنة القمرية تعتمد على بزوغ الهلال، فيكون الشهر فيها تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً، وهي بلا شك أقصر من السنوات الشمسية، فاعتمد المسلمون على السنوات القمرية، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا".
نظرة وداع إلى العام المنصرم
ثم انتقل المحاضر إلى إيحاء آخر من إيحاءات العام الجديد، وهي حول أعمال العام الذي مضى وذكر أنها لا تتعدى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أمور عصينا الله تبارك وتعالى فيها، واستجبنا لداعي الشهوة والهوى، وهذه الأشياء ذهبت لذاتها وفرحتها وسرورها وبقي ألمها وعذابها،. الصنف الثاني: طاعات أطعنا الله تعالى فيها، وعصينا فيها الشيطان وداعي الهوى والشهوة، فهذه الطاعات، من صلاة وقيام ليل وصيام وظمأ الهواجر ونفقة وغير ذلك؛ ذهب ألمها وتعبها وإجهادها، وبقي سرورها وحبورها ونورها في قلوب من فعلوها، وبقي برها وذخرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يلقاه يوم يلقاه قال الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }(7) {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }الزلزلة8. الصنف الثالث من أعمالنا التي علمناها فيما مضى: أعمال الدنيا التي نقاسيها، من طلب الرزق والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال الدنيوية، وهذه الأعمال منها ما لا بد للإنسان منه؛ فهذا لا يلام عليه وإن أحسن قصده فيه كان له به أجرٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة... إلى قوله: وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ" رواه مسلم.
حقيقة سير الإنسان في هذه الدنيا
الإيحاء الرابع الذي يتذكره الإنسان عند استقباله للعام الجديد هو أنه يتنبه إلى أن الذي أخذ من عمره ما أخذ، إنه يباعده عن العمل ويقربه من الأجل. فإن هذه الأيام والليالي مراحل لا تزال بالإنسان حتى تورده القبر، قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة. هذا هو حقيقة ما تقوله الأيام والليالي. ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها فإن الإنسان يتذكر في هذه المناسبة وجوب الاستعداد للموت، وتذكر القبر والبلاء وألا يغفل الإنسان: كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك والقبر فإن من مضى، أخبارهم في الكتب والدواوين وعلى أفواه الرجال، أما من تراهم وتعاينهم فهم بين عينيك، يوماً بعد يوم يفقد الناس راحلاً إلى القبر، قد انقضت أيامه وتصرَّمت ساعاته وأعوامه، وانقضى أجله وارتهن بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وهذا يذكر بقضية طول الأمل، يقول الله عزَّ وجلَّ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }الحجر3، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: "لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل" وهذا من العجب فإن الإنسان يكبر ويكبر معه أمله، وإنك لتعجب - أحياناً- أن تجد شيخاً بلغ التسعين فتجد أنه قد عقد آمالاً عراضاً! مع أنك قد لا تعجب من شاب في سن العشرين، وإن كان هذا عجباً في الواقع، لأن هذا الشاب في سن العشرين ليس معه صك أنه سيعيش كذا وكذا من السنين، وهو يرى من زملائه وإخوانه من تخرمته المنايا وانتهى في سن الشباب.
خطر التسويف في التوبة
فرحم الله امرءاً تنبه لنفسه، وتذكَّر أنه يمر عليه اليوم بعد اليوم، والعام بعد العام، حتى يقال: فلان مات، ولو نظرنا -أيها الأحبة - في عدد الحضور الآن، وقدرناهم بثلاثمائة أو أربعمائة إنسان أو أقل أو أكثر، وهؤلاء الأربعمائة لو قدر للإنسان أن يطلع على ما كتب لهم في مقاديرهم وآجالهم؛ لربما وجدنا من بيننا من كتب أنه سيموت هذا الأسبوع، ومنا من كتب أنه سيموت هذا الشهر، ومنا من كتب أنه سيموت هذه السنة، ومنا من كتب أنه سيموت في هذا العقد، ولا شك في هذا مطلقاً ولا بد منه، لكن من يدري: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ }يونس20 ، لكن على العاقل أن يفترض أن الأمر سيقع به هو: فحذار حذار من التفريط والتسويف والإهمال والتعلق بالآمال، فإنها لا تغني عن العبد شيئاً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبه وقال له: كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل"
إيحاء خامس من إيحاءات هذه المناسبة المباركة الكريمة، وهو: أن كثيراً من الناس يقول: أمرنا أمرٌ عجب نحن عقلاء لكن أفعالنا - أحياناً - تشبه أفعال المجانين، كيف ذلك؟! ذلك أن الإنسان قد يسمع الموعظة وينفعل لها ويتأثر بها، بل قد يفكر في نفسه وفي أمره وفي دنياه وما هو مقبل عليه، وهو مؤمن يعرف الموت ويعرف البعث والجزاء والحساب والجنة والنار، ويعرف هذه الأمور كلها، ولو كان كافراً أو جاهلاً لقلنا: هو منطقي مع نفسه يعمل للدنيا؛ لأن الدنيا غاية ما يريد. لكن هذا مؤمن بالبعث بعد الموت، وبلقاء الله ويعرف ذلك كله، ثم مع هذا العلم والمعرفة تجد الإنسان يسوف ويماطل ويؤجل في التوبة والندم وعمل الصالحات، فيا ترى ما هو السبب في ذلك؟.
لذلك أسباب أرى أن من أهمها ما يلي:
أولاً: رؤية الهوى العاجل. فإن ذلك يشغل عن العواقب، ويوقع في المعصية، فإذا رأى الإنسان هوىً لاح له ربما استغرق في هذا الهوى حتى يغفل عن عواقبه.
ثانياً: الغفلة. وأكثر الناس غافلون، وكل طبقة مشغولة غافلة لاهية مستغرقة بعمل معين، لا تفكر في الأمر الذي خلق له كل هؤلاء.
ثالثاً: من أسباب تأجيل التوبة رجاء الرحمة. فيقول العاصي: ربي غفورٌ رحيم، خلِّ بيني وبين ربي، ونقول: هذا صحيح، ولكنه شديد العقاب! وإن هذه مناسبة للتوبة، فإننا الآن في شهر الله المحرَّم، وفي بداية العام، وقد تاب الله في هذا الشهر على قوم؛ فقد تاب على بني إسرائيل كما ورد في حديث وإن كان فيه ضعف: "إن الله تاب فيه على قومٍ ويتوب فيه على آخرين" فاجعل نفسك ممن تاب الله عليهم في هذا الشهر، خاصة وأنك تتذكر أنك انتقلت من مرحلة إلى أخرى، وتذكر وأنك إن لم تتب فإن الله تعالى قد يأخذك بذنبك: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ }(97) {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }(98) {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }الأعراف99 ، قد يؤخذ الفرد بذنبه، وقد تؤخذ الأمة بذنبها أيضاً، فإنه لا أحد يعلم الموازين عند الله جلَّ وعلا، فقد تفعل ذنباً مستهيناً به فيسخط به الله تبارك وتعالى عليك، ويقول: لا أغفر لك بعدها. وقد يأخذك الله به في هذه الدنيا ويعجل لك به العقوبة، فيأخذك أخذ عزيز مقتدر، وحتى لو أبطأت وأجلت في التوبة، فما هو الذي يؤمنك إذا أخرت التوبة، ألا يبقى أثر الذنب عندك؟! ألم تعلم أن آدم عليه السلام لما أتاه أهل الموقف ليشفع لهم اعتذر بذنبه، وموسى اعتذر بذنبه، وإبراهيم اعتذر بذنبه، مع أنهم قد تابوا منها لكن منعتهم من الشفاعة. فما الذي يؤمنك إن ظللت مقيماً على ذنوبك أن يسود بها وجهك، ويتغير قلبك، ويفسد بها طبعك، ويضيق بها رزقك، ويتكدر بها عيشك؟ فسارع إلى التوبة قبل أن يكتب عليك.
علو الهمة
ومن إيحاءات العام الجديد كما يستعرضها الدكتور العودة: علو الهمة. كل شيء كبير خطير، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله. ألم تر كيف أن الإنسان إذا توجه إلى طلب العلم احتاج إلى سهر الليل وتعب النهار، والسهر بالأسحار والظمأ والتعب وتفويت المصالح والانكباب، وربما أصابه جهد في بدنه أو ضعف في بصره، أو فاته كثير من مصالحه حتى يحصل على شيء من العلم الشرعي. حتى قال أحد الفقهاء: والله لقد بقيت سنة أشتهي الهريسة ولم أحصل عليها، وذلك لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس، والهريسة طعام من الحلوى اللذيذة، ويمكن أن نعبر عنها بلغتنا الحاضرة بما يسمونها بالجميدة، مع أن الهريسة شيء آخر لكن هذا مثال، فطالب العلم يريد أن يروِّح عن نفسه فيأكل بعض الأطعمة التي يستحليها الناس ويستحسنونها، والجميدة هي ما يشتهر على ألسنة العامة بالآيسكريم، وقد اقترح بعضهم أن تسمى بالجميدة، وهذا اسم لا بأس به، فيكون تعويضاً عن اسم أجنبي لأن الآيسكريم اسم غير عربي. المهم أنه يقول: بقيت سنة أشتهي الهريسة ما أكلتها؛ لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس. ففاته هذا من أجل ألا يفرِّط في خمس دقائق في حضور درس العلم. وقل مثل ذلك بالنسبة لتحصيل المال، كيف ترى التاجر يبذل من الوقت والجهد في تحصيله؟ كذلك الشرف، فإذا أراد الإنسان أن يحصل على شرف بالكرم والجود ويوصف بأنه جواد كريم، تجده يجمع الأموال الطائلة ثم يفرقها بمناسبة أو وليمة أو عزيمة أو غيرها، وعلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، فكم يتعب في تحصيل المال، ثم يجاهد نفسه لأن المال محبوب عند الجميع، ومن قال إنه لا يحب الدنيا فكأنه يكذب في ذلك. وهكذا كل أمر عظيم جليل لا بد فيه من علو الهمة، فما بالك بإنسان يريد أن يحصل ذلك كله! وما بالك بأقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها! فهم يريدون أن يحصلوا على العلم وعلى العمل بأكمله، فلا بد أن يكون عندهم همة عالية.
أهل الدين هم أسعد الناس
فما بال الإنسان في الدنيا قد مدَّ حبالاً عراضاً، وصاحب همة عالية، وتجده في الدين على النقيض من ذلك، والواجب أن يكون الإنسان بضد هذا؛ لأن من كانت همته الدين فلا يعني هذا أنه قد فقد الدنيا، فوالله الذي لا إله غيره إن المتدين تديناً حقيقياً هو أكثر الناس استمتاعاً حتى بهذه الدنيا، فاستمتاعه بالمال أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالطعام والشراب أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالزوجات أعظم من استمتاع غيره، وذلك لأسباب: منها: أنه مرتاح البال، يحس بأنه فعل ما يرضي الله، ولم يرتكب معصية أو محرماً، ويعلم أن هذا من حلال. ومنها: أنه قد منع نفسه من الحرام فتجمعت قوته لذلك، فقد منع نفسه من كثرة النظر وارتكاب الفواحش وغيرها، فتجمعت قوته في مصب واحد، فكان أكثر متعة من غيره.. أما المطيع الذي اقتصر على الحلال، فإن الله عزَّ وجلَّ يورثه ويعوضه في الدنيا من الأنس بذلك واللذة ما لا يجده الذواقون وأصحاب الشهوات، وشتان بينهما. ومن أسباب تلذذ المؤمنين واستمتاعهم بهذه الدنيا: أن الواحد منهم يستشعر أن في هذا طاعة لله عزَّ وجلَّ وقربة إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "وفي بضع أحدكم صدقة" حتى وهو يأكل أو يشرب أو يأتي أهله أو ينام؛ يحس أن هذا يكتب له به أجر وله به صدقة، وهو في ميزان حسناته، فيفرح بذلك ويسر له، فحتى الدنيا والله فاز الصالحون بخيرها، فالخيرون والطيبون والمتدينون ذهبوا بخيري الدنيا والآخرة.
تفاوت همم الناس
وهمم الناس تتفاوت، وكل إنسان له همة، ولذلك ورد في الحديث الذي رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام" لماذا همام؟ لأن ما من إنسان إلا وعنده همَّة، فيَهُم وينوي شيئاً مهما كان، فكل حيٍّ عنده همة، لكن من الناس من همته في الدنيا، و همم الدنيا وهي كثيرة؛ الأموال والمناصب والشهرة إلى غيره ذلك. لكن العاقل من يجعل همته في الآخرة، فإذا وصل إلى مستوى طمع إلى ما هو فوقه، فينظر إلى الصالحين والزهاد والعباد، ولذلك تجد كثيراً من الناس اليوم لو سألته: من تحب أن تكون مثله في الدنيا؟ لبحث عن أكثر الأثرياء والأغنياء، وقال: مثل فلان. لكن لو سألته في الدين والآخرة هل يقول: مثل فلان الزاهد، أو فلان المجاهد، أو فلان العابد، أو فلان العالم؟! قلَّ من يقول ذلك! بل تجده يقول: يكفيني أن أصلي الفروض الخمسة في المسجد، وعسى الله أن يعيننا عليها، وعسى أن نقوي أنفسنا عليها.
زيادة العمر للمؤمن خير
ويوحي اليك العام الجديد بأن زيادة العمر للمؤمن خير. روى الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه: "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من خير الناس؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فمن شر الناس؟ قال: من طال عمره وساء عمله" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وللحديث شواهد عن عبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم أجمعين. فطول العمر للمؤمن خير، ويعجبني أن أنقل لكم كلمتين لإمامين في مسألة طول العمر. الكلمة الأولى: لابن الجوزي - رحمه الله - يقول في كتاب صيد الخاطر (ص114): دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب. قال فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟ فقلت له: يا أبله - ابن الجوزي يحاور إبليس وهو يعاتبه ويخاطبه ويوبِّخه - لو فهمت ما تحت دعائي وسؤالي لعلمت أنه ليس بعبث، أليس في كل يومٍ يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي يوم حصادي؟ أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأني ما كنت أعرف الله تعالى معرفتي به اليوم، وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها فيها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في انقاذ المباضعين من المتعلمين -أي: في الدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور- فياليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل نفع ورفع. ما أجمل هذا الكلام! فإن بعض الناس من التزهد والتوعظ قد يقول لك: يا ليتني أموت الآن، فقد كثرت المعاصي وكذا وكذا، وهذا بسبب أنه لا يعلم خيراً، ولا ينفع الناس، لكن ابن الجوزي - رحمه الله - لأنه كان واعظاً، وربما تاب في مجلسه الواحد مائة وخمسون من العصاة، وأسلم على يديه مئات من أهل الذمة، وله أثر عظيم ملموس، لذلك كان يقول وينادي: يا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه شيء نفع ورفع.
فضل شهر الله المحرَّم
ويختتم الدكتور العودة محاضرته بذكر شيء من فضائل شهر الله المحرَّم، مؤكداً أنه من الأشهر الحرم قال الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ }التوبة36. والأشهر الحرم الأربعة هي: محرَّم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ولذلك تقول العرب: الأشهر الحرم أربعة، منها ثلاثة سرد وواحد فرد، أما الثلاثة السرد فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرَّم، وهي ثلاثة أشهر متوالية، وأما الفرد فهو: رجب، ولذلك يسمى رجب الفرد أحياناً؛ لأنه منفرد عن بقية الأشهر الحرم. ومن حكمة الله تعالى أن بدأ السنة الهجرية بشهر حرام، وهو محرَّم، وختمها بشهر حرام وهو ذو الحجة. والمحرَّم قال بعض العلماء: إنه أفضل الأشهر الحرم، قال الحسن البصري -رحمه الله -: إن الله افتتح السنة بشهر حرام، وهو المحرَّم، واختتمها بشهر حرام وهو: ذو الحجة، وإن أعظم شهر في السنة عند الله بعد رمضان شهر الله المحرَّم. وقد جاء اسمه هكذا في السنة شهر الله كما في صحيح مسلم وسنن النسائي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه شهر الله الذي تدعونه المحرَّم" وإنما نُسب إلى الله تعالى تعظيماً له، كما يقال: بيت الله وناقة الله وما أشبه ذلك، فإنما نسبته إلى الله تعالى نسبة تشريف وتعظيم، فهو من أشرف الشهور وأفضلها وأعظمها عند الله تعالى. وكان يسمى الأصم، بل ورد هذا في حديث مرفوع لكنه مرسل عن الحسن البصري، وذلك لشدة تحريمه عند الله تعالى. وقد جاء في سنن النسائي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ وأي الأشهر أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خيرُ الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرَّم" فهذه من فضائل شهر المحرم. ومن فضائله: أنه يستحب فيه الصيام، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرَّم" وليس المقصود أنه أفضل الصيام على الإطلاق، لكن صوم النفل على قسمين: القسم الأول: صوم نفل مقيد: مثل الست من شوال، وأيام البيض، وما أشبه ذلك، فهذا يكون أفضل من المحرَّم. القسم الثاني: نفل مطلق غير محدد، فهذا أفضله المحرَّم. مثل الصلوات، فهناك نوافل مقيدة، مثل الرواتب قبل الصلاة وبعدها، فهذه أفضل حتى من قيام الليل، وهناك نوافل مطلقة، كأن: تصلي بعد الظهر ما شاء الله لك، أو بعد المغرب تصلي ما شاء الله لك، فهذا قيام الليل أفضل منه، وهكذا الشأن في موضوع صيام شهر الله المحرَّم. ومما يستحب صيامه في محرَّم يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر؛ لأنه يومٌ نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، والكلام في يوم عاشوراء يطول، لكن يوم عاشوراء كان يُصام في الجاهلية، وكان يوماً تكسى فيه الكعبة، وكانت اليهود أيضاً تصومه، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، حتى جاء في الصحيحين من حديث الربيَّع وغيرها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في القرى القريبة من المدينة: من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن كان صام فليصم فكانوا يُصَوِّمون صبيانهم، فإذا بكى أحدهم أعطوه اللعبة من العهن حتى يكون عند الإفطار" أي: يعطونه اللعبة يلعب بها ليصوم حتى الغروب.
فأمر الناس بالصيام في ذلك اليوم، ولهذا ذهب جماعة من الفقهاء كـأبي حنيفة وغيره إلى أن صيام يوم عاشوراء كان واجباً، فلما فرض رمضان أصبح سنة. ولا يزال جمهور العلماء يرون أن صيام يوم عاشوراء مستحب، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة: "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء، فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" فيستحب للإنسان أن يصوم عاشوراء، وفي صحيح مسلم أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" فمات [، فيستحب أن يصوم اليوم التاسع معه، ويكره بالصيام؛ لأن في ذلك مشابهة لليهود، بل يستحب أن يصوم الإنسان يوماً قبله، وإن صام يوماً قبله ويوماً بعده وإفراده كما ذهب إلى هذا ابن القيم واعتبر أن هذا هو الأكمل كما في زاد المعاد، فلا حرج عليه، لكن هذا لم يرد فيه نص، وإنما يستحب أن تصوم التاسع والعاشر.