نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

وقــال النهــر ... شرّ المجاملات


بقلم : عمرالحمود

المجاملة ضرورية إن حضرت في الموقف المناسب ، ولا ينكر أثرها الحميد في النفوس ، ولكن إن طرزت المواقف كلها بلا ميزان أو معيار ، تصبح ستراً للخطأ وتجميلاً للقبح . فنلتقي بشخص نعلم أساليبه الملتوية واستغلاله لمركزه الوظيفي وجمعه لأموال لا تأكلها النيران ، ونقول هذا شأنه وشأن الرقابة والمحاسبة ولن نرقد في قبره .
أما أن يتصدر المجلس ، ويتقمص هيئة واعظ زاهد ، ويأمر الآخرين بالمعروف وينسى نفسه ، ويتشدق في النزاهة ، ويتحذلق في الصدق وحسن الخلق ، ونصمت أمامه ،أو نهز رؤوسنا مجاملة ، فهذا غش، ومجاملتنا تجعله يواظب على فعله ، ويظن من لا يعرفه أنه ملاك طاهر معصوم من الزلل .‏
ونجد شخصاً آخر ظلم ، وتجبر ، واقترف ذنوباً لو وزعت على بلدة لأثقلتها ، وإن جاء ذكر العدل يستطرد في سرده مظهراً حبه للرحمة وتطبيقه للعدل على القوي قبل الضعيف وفي العسر قبل اليسر ، ونصمت ونجامله مؤيدين ، فعملنا هذا يجعله يدعي أنه أعدل من الفاروق عمر رضي الله عنه .‏
وثالث اشتهر بتهوره وطيشه ، ويمتطي صهوة الكلام ، ويصول ويجول في ميادين الحكمة والحلم ونجامله ، فيعتقد السامع أنه ابن لقمان الحكيم .‏
ورابع عرف بغبائه وتغنى بالذكاء والدهاء وطرح أكاذيباً فاضحة ونصمت أونجامل ، فيرفع رأ سه بغرور وكأنه داهية الدواهي ولو عاصر معاوية بن أبي سفيان لسبقه وأذهب ذكر شهرته .‏
ويأتي من يتسلط على منبر ويقرع مسامعنا بنثر لامعنى فيه ولا مبنى ، ونمدحه مجاملة حتى يتصور نفسه جاحظ العصر وسيد النثر وعلى العالم أن يمنحه جائزة نوبل ويقف آخر يدعي أنه شاعر ويرشقنا بمفردات لا رابط بينها ولا توجد فيها موسيقا أوصورة ، ولا تنتمي إلى حداثة أو أصالة ، ونصفق تصفيقاً حاراً لم يحصل عليه شعراء المعلقات وشعراء ما بعد الحداثة ولو باحوا بأجمل مذهبات قصيدهم وأثمن جمان نثرهم .‏
ونستمع إلى محاضر اقترن اسمه بالألقاب والأوسمة ، ولا نسمع منه إلا الغث من الكلام ونجامله ، فينتفخ وكأنه قطب الفكر ونابغة الزمان .‏
ونجامل أشباه المثقفين وأنصافهم وأرباعهم ، فيتطاولون ويتسلقون سلالم المبدعين .‏
وفوق هذا نقول لماذا يبعد الناس عن أنشطة الثقافة ولا يحضرون إلا النادر منها ؟!‏
ونجامل العامل المهمل فينتشي ويظن أنه نشيط مجد .‏
ونجامل الموظف المقصر فيعاملنا بجلافة ويتضاعف تقصيره .‏
ونجامل المدير الفاشل فيتشبث بالإدارة حتى مدخل التقاعد أو القبر .‏
ونجامل المريد فيرتدي جبة الشيخ فيحلل ويحرم ويكفر ويفتي بلا علم .‏
والنماذج كثيرة .‏
المجاملات لم تخلق لهذا ، وإن استمرت بهذا الشكل فإنها تزيف أقوالنا ، وتشوه علاقاتنا وتجعل منها رمية لكل رام وقنيصة لكل قانص ، وتبعدنا عن الحقيقة وتجلعنا نرى الخنفس‏ الأسود لؤلؤة .